يناير بين الفجور والتقوى !
كان خطيب يوم الجمعة الماضي يقرأ سورة "الشمس" في الركعة الأولى.. فلما وصل إلى "ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" برقت في رأسى أحداث 25 يناير 2011.. فالثورة فيها من النفس البشرية الكثير.. الخير والشر.. الفجور والتقوى.. الاحترام والتمرد.. العقل والجنون.. السخط والرضى.. الجمال والقبح.. الرومانسية والمادية.. السرقة والشرف.. الحماسة والاستغلال.
كل هذا وأكثر منه كان في يناير.. بعضهم عبدوها.. وآخرون لعنوها.. بعد مرور أربعة أعوام على أحداثها مازلنا عاجزين عن كتابة تاريخ واضح ومحدد لها.. هل هي ضريح نحرق من حوله البخور وندعو لساكنيه بالرحمة والمغفرة.. أم هي صنم معبود نقيم له كل عام مولدا صاخبا يعلو فيه الصخب والضجيج بزيف واصطناع.. أم لعلها رجس من عمل الشيطان يلعنه آخرون ويتهمون من يتمسكون بها بالعمالة والانسحاق أمام أقدام المتآمرين على مصر.
فريق يتهمها بأنها لعبة مخابرات، ومعسكر مضاد يؤكد أنها ثورة للبراءة ومحاربة الفساد والطغيان.. الآراء تتصادم بعنف كأفيال في نزال والمعارك ناشبة بين وحوش الفريقين وتسيل الدماء على جبهة الوطن.
ورغم أن هناك فريقًا لا يأخذ أحد رأيه أو يتطوع بالحديث إليه، إلا أنهم موجودون.. هم أناس طبيعيون طيبون لا يتبارون في تقديم اتهامات العمالة أو حيثيات براءة يناير من دم المؤامرة.. هؤلاء هم العقلاء الذين يحسبون ما كسبته مصر وما خسرته.
فيناير ليست عسلا صافيا أو علقمًا مرًا.. إنها بين بين .. فيها كل التناقضات مثل النفس البشرية.. هؤلاء العقلاء تحتاجهم مصر لتكتب تاريخ يناير الحقيقى للأجيال القادمة.. إننا لا نريد لبلدنا ثوارا يصرخون أو أبطالا يعددون مآثرهم أو راقصين على السلالم.. أو قادة يتغنون بما يحلمون به وكيف تعثّروا بفعل خصومهم.
مصر تحتاج أناسا حقيقيين يتحدثون عن الوردة برائحتها الذكية وأشواكها الحادة.. وعن قسوة الصخرة وجمالها.. نريد بشرًا عاديين لا يتمسحون في يناير أو يونيو.. وإنما يتسربلون بمصر.. نبحث عمن لا يريد لنفسه مجدا أو يدعي لشخصه مكسبا.. يؤيد مشاريع الخير حتى لو لم يك صاحبها ويناهض الشر الذي ربما يخرج من معسكره.
هؤلاء الذين أتحدث عنهم أكثر من مؤيدي الثورة ومعارضيها، ولكنك لا تشعر بهم لأنهم لا يتحدثون عن أنفسهم أو يناصبوك العداء إذا خالفتهم ويدمنون مديحك إذا كنت من رأيهم.
هؤلاء الذين لا يؤيدون ولا يعارضون ليسوا متطرفين أو إخوان أو جهاديين، لكنّهم مصريون من نسيج مختلف.. مشكلة يناير أن طرفيها متطرفان في رأيهما.. فالمؤيد لها يراها كصانع المسك، إما أن تبتاع منه أو تشم منه ريحًا طيبة، والمعارض ينظر إليها كنافخ الجير إما أن تحترق بلهيبه أو تشم منه ريحًا خبيثة.
مصر لا تريد المتطرفين في الديمقراطية التي لا يرونها إلا وعاءً يأتي بهم للبرلمان.. ولا تريد من لا يحترمون الاختلاف في الرأي أو تقديم وجهه نظر أخرى.. فإمّا أن تكون معهم أو ضدهم.. والحقيقة أننا لا يُمكننا أن نستمر في الاحتفال بيناير بطريقة الموالد والديمقراطية العوراء.
إن مصر تحتاج بعد مرور أربعة أعوام على 25 يناير أن تجمع الفرقاء.. العقلاء مع الفوضويين والمجانين.. النجوم مع البسطاء.. المفكرون مع المهيجيين والمحرضين.
إن الاحتفال بيناير الذي خيم عليه هذا العام وفاة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان ينبغي أن يأخذ طابعا خاصًا يختفي فيه الاستقطاب بين الجميع.. لا يُمكن أن يحتفل الناس بيناير وفريق يشرشح الآخر.. أو يحولونه إلى مولد مثل موالد أولياء الله الصالحين في بر مصر والتي يسعى فيها الجميع إلى الحديث عن صاحب المقام وتعديد ماّثره وفضائله.. ولا من مصلحة أحد أيضا تحويل يناير إلى " محرقة " باعتبارها جلبت الشرور والآثام للوطن وأفقرت الاقتصاد.
لا هذا ولا ذاك.. لا نريد أن تتحول ذكرى ثورة يناير إلى سرادق يجلس فيه لاعنوها ومحبوها يتواجهان ويسبان بعضهما البعض ويدافع كل منهما عن رأيه ونظريته.
نريد أن يضم الاحتفال بالذكرى الفريقين معا يشرح أحدهما رأيه ويرد الاّخر بحجته، وفي النهاية يتفق الطرفان على أن ما حدث كان نتيجة طبيعية لحكم استمر 30 عامًا.. وإذا جاز لنا انتقاده ونحن نعرف سلبياته، فلا يجوز أن نلعنه متغافلين عن إيجابياته، فمن الطبيعي أن نقيم يناير بطريقة أخرى.. فهي ليست بقرة مقدسة.. وليست كذلك جيفه نتنة ننفر منها ونبتعد عنها.
إذا كانت سخطًا وغضبا فعلينا أن نمنع الأسباب التي أدت إليها، ولو شذ البعض عن الرأيين وانتهى إلى أنها مؤامرة، فواجبنا أن نفطن إلى ما يحاك ضد مصر، فهو لن ينتهي بالفشل دائما كل مرة.. دعونا لا ننظر إلى الوراء ولنركز في مستقبلنا وأحلامنا كي تكتمل حكاية شعب ثار أو غضب أو سخط، لكنه لم يقف ساكنا بعد ذلك، وإنما تحرك ليبني وطنه متلافيا كل العيوب والأخطاء والخطايا.