التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:59 ص , بتوقيت القاهرة

باسم أطفال الشوارع حاكموا الأسلاف

باسم كل طفل سيبيت الليلة في الشارع. باسم كل شريد يفترش الرصيف، باسم كل طفلة تلتحف  السماء، ونحن، حول المدافئ، نئن من ألم البرد القارس!


عن عبد اللَّهِ بن مسعود قال حدثنا رسول اللَّهِ وهو الصّادق المصدوق:


إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.. ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك.. ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ.. أيه هي الأربع كلمات؟ رِزْقِهِ.. أَجَلِهِ.. عَمَلِهِ.. وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ.


فَوَا الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا.. ما معنى هذا الكلام؟


معناه أولاً أن كل شيء قد قدر سلفاً، ثم معناه؛أنك قد تقضي عمرك في "عمل" كل ما بوسعك، من أجل أن تنعم بجزاء عملك في الآخرة، قد تؤدي الفرائض والسنن، قد تصلي وتصوم وتجح، قد تزكي وتنفق في سبيل الخير، ثم على مقربة من موعد الجزاء الحسن عن هذا"العمل"، تقترف – جبراً - شيئا ما، كتبه الله عليك مسبقاً، فيكون مآلك إلى جهنم، بكلمات أخرى؛ يضيع "عملك" سدى، وتحشر مع أبو لهب ورفاقه!


وإنّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا.


هنا نفس المعنى أيضاً، وإن كانت الزاوية معكوسة، قد تقضي عمرك في الغش والعربدة، قد تسرق، قد تكذب، قد تعيش حياتك بلا وازع ديني أو أخلاقي، وعلى مشارف العقاب، لما اقترفته يداك طيلة حياتك، قد يحدث لك شيئاً تم تقديره سلفاً، فتجد نفسك إذ ذاك مع الصديقين والأبرار والأخيار، وتمسي وقد جمعك بمن قضى عمره في "العمل" الصالح، نفس الأرائك المصفوفة.


في الحقيقة، ورغم ما تقدم من استهلال، هذا المقال ليس عن الحديث ذاته، ولا حتى عن الدين، بل عن الذهنية المصرية بالذات.


يقول ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: "هذاالحديث متفق على صحته،تلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري ومسلم. أخدتو بالكم من جملة تلقته الأمة بالقبول؟!


هذه الجملة هي ما أريد أن اتحدث عنه تحديداً، فعند هذه النقطة لم يعد الحديث مجرد كلام "منسوب" للنبي محمد، بل أضحي فكرة، ثم أمسى ثقافة.قناعة أمة، تشكّلت عبر مئات السنين، وبمرور القرن يتبعه القرن، تماهت الأمة مع قناعاتها، وتجذرت ثقافتها في وجدانها. ثقافة اتكالية، أفرزت ضمن ما أفرزت، ظاهرة أطفال الشوارع!


فكل طفل سينام الليلة على الرصيف، وراؤه أب وأم شكّل هذا الحديث ثقافتهم، كل طفلة تستجدي الآن غطاء تدثر به، تركت من خلفها أسرة آمنت بصحة هذا المتن. كل متسول يستحلف المارة رغيف، وراؤه عائلة على قناعة تامة بنسبة هذا القول للنبي!


أطفال الشوارع ظاهرة مؤرقة، نعم، استفحلت وتضخمت حتى عجزنا أمامها عن مجرد حصرها، نعم، ومع ذلك؛ ورغم عظمها واستفحالها، يمكن ردها إلى حدث بسيط جداً، إلى فعل غريزي وطبيعي.


فهؤلاء، قبل كل شيء، نتاج لحظة حميمية، لقاء جنسي كالذي يقع بين أب وأم، لكن الفارق، أنه بلا حساب للعاقبة أو النتيجة، فقط أرادوا لأنفسهم المتعة، وسعوا بـ "عملهم" إلى اللذة، وتركوا العاقبة لله، كنتيجة لإيمان شكّله هذا الحديث بالذات، إيمان مفاده: سيأتي الطفل غداً ومعه رزقه. هذه هي نقطة بداية الظاهرة، ثم قل فيها بعد ذلك ما شئت.


فأطفال الشوارع ما كانوا ليكونوا أطفالا أصلاً لولا "العمل". ومع ذلك يؤمن من "عمل" لإنجابهم أن حيواتهم ستنصلح بلا عمل، فرزقهم مكتوب، ومصيرهم محتوم، وشقاؤهم أو سعادتهم محددة سلفاً. مفارقة مضحكة مبكية!


أسوأ من تلك الأم الأنانية، وأضر على المجتمع من ذلك الأب المتكل، من يلقي باللائمة علي غيرهم، قبلهم ، ومن يغض الطرف عن"السبب الأصيل"لأنين هؤلاء الأطفال، ليبحث عن حجج وذرائع أخرى.قد تكون صحيحة، نعم، لكن ليست أصيلة على أي حالة، ذلك لأنه يحاول علاج العرض، بغض الطرف عن سبب المرض.أتدرون لما يفعل؟


لأنه تشبع بتلك الثقافة حتى التخمة، ولما رأى الواقع يثبت تهافتها، يؤكد خطأها، يقطع بسخفها، ويقر - بالشاهد المادي – على عدم معقوليتها، فضل الإنكار علي المواجهة. جبن عن الإقرار بصحة ما تراه عيناه رؤية الشمس في كبد السماء، لأنه لو وجه اللوم لأصل الداء أولاً، لمن ضاجع بلا اكتراث فأنجب ثم ألقى في الشارع، سيتحول لومه تلقائياً إلى اعتراف ضمني بنكران هذا الحديث، وباستهجانه للثقافة التي أفرزها.


سيصبح إنكاره كفر بالموروث، ومع ذلك فله بعض العذر، ذلك لأن الإرهاب الفكري الذي تعرض له طيلة قرون، على يد مشايخ الأمة يتقدمهم رواة الأحاديث، لابد أن يفرز أجيالا من الجبناء، ولا استثني نفسي، إلا أنه قد حان الوقت لمحاكمة هؤلاء الأسلاف، بنقد تركتهم وتراثهم!


في المقال القادم، إن شاء الله،سنتحدث عن قصة هذا الحديث، عن سنده، وعن كيفية تصدي رجل شجاع لمتنه.


 


(*) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم. المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ). الحديث الرابع. الجزء الأول. صـ 157.