التوقيت الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024
التوقيت 02:56 ص , بتوقيت القاهرة

الإجماع

لا يختلف الحديث عن الإجماع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي عما سبق الحديث عنه، فلازلنا نُناقش مسألة أن يتساوى الإلهيّ مع البشريّ، والمُطلق مع النسبيّ، والثابت مع المُتغير، ونحاول أن نفصِل هذا عن ذاك.


الإجماع كما يُعرفه الأصوليون هو اتفاقٌ جميع المجتهدين من أمة محمد على أمرٍ من الأمور في عصرٍ غير عصر الرسول، أي أن معناه ببساطة أن يتفق كل علماء الدين  على رأي واحد، فيكون هذا الرأي حُجة شرعية، وجدير بالذكر أن الإجماع لابد أن يكون له مستند شرعي من قرآن أو حديث، بمعنى أن الإجماع يكون في فهم المراد من الآية أو من الحديث، وهذا معناه ببساطة أن الفهم البشري المحدود للنص أصبحت حُجيته  مساوية لحُجية النص الإلهيّ،  فالإجماع مصدر من مصادر التشريع مثله مثل القرآن!!


 وبما أن الموضوع بهذه الدرجة من الخطورة، فإنني  أُحب أن أتساءل هل هذا التعريف منطقي وممكن حدوثه ؟ بل لعلّني أتساءل هل تحقق فعلا في عصرٍ من العصور؟ بل يبدو أنه يجب أن أتجاوز وأسأل هل أجمع الفقهاء على هذا التعريف؟ وماذا إذا لم يُجمعوا على الإجماع ؟ وأخيرا هل خالفهم أحد ؟ كيف يُمكن التأكد من الإجماع، أي كيف يُثبت لهم أنه لم يخالفهم أحد ؟


وحتى لا يطول الكلام فمن أراد أن يستزيد من الموضوع فليرجع لقول المعتزلة مثلا  في مسألة الإجماع،  والمعتزلة فرقة كانت مُعاصِرة لحِقبة التأصيل، وكانت لهم آراؤهم العقلانية وانتقاداتهم، والذين لو قُدر لهم الاستمرار لكان للتشريع الإسلامي تاريخ آخر مختلف تمامًا، فكل مجهود بشريّ يجوز أن لا يحدث أصلا، ويجوز أن يحدث بطريقة مختلفة تماما، وقد يتدخل في حسم الصراعات بين تلك الفرق سُلطة سياسية ما،  فتنتصر فرقة على أخرى، وتصبح أقوالها هي الدين، فمن العبث أن نعتبر أن هذا المجهود البشريّ دينًا أزليًا مُطلقًا.


وعلى كل حال فقد اختلفوا في تعريف الإجماع ثم اختلفوا في حجيته، بمعنى هل هو حُجة قطعية كالقرآن أم ليس كذلك، ثم اختلفوا في الإجماع الذي بلغ عدد المُجمعين فيه عدد التواتر، والذي لم يبلغوا فيه عدد التواتر واختلفوا في من هم العلماء الذين يُعتد بقولهم والذين لا يُعتد بقولهم، واختلفوا في شروط صحته، واختلفوا أيضا هل يُمكن حدوثه واجتماع أهل العصر على رأي واحد أم لا.


بل وقد أخرج شارحو هذا الأصل كل من كفّره العلماء ببدعته.. وهذا يعني ببساطة أن الإجماع أن يتفق كل من معنا ورضينا عنه على رأي واحد، فلا عبرة بقول من خالفنا، فهل كل من خالفهم كافر بالفعل أم أنه فقط قد اجتهد اجتهادا لم يرضوا هم عنه، ولعلّ التاريخ يحكي لنا كيف كان يتم تفسيق وتبديع الناس لمجرد الاختلاف  في الاجتهاد معهم، أو لمجرد الاختلاف السياسي معهم  ولنأخذ مثالا على ذلك.


  يقول الدكتور محمد حسن هيتو في كتابه "الوجيز" في أصول التشريع  الإسلامي (إن كثيرًا من الفرائض المُتفق على فرضيتها قد ثبتت بأخبار الآحاد التي تقبل التأويل ولا تفيد إلا الظن، ومع ذلك نرى الأمة متفقة على تكفير جاحدها أو مؤولها وما ذلك إلا للإجماع، ونرى أن كثيرًا من الأحاديث والآيات تحتمل التأويلات البعيدة لدلالتها الظنية، إلا أننا نمنع هذه التأويلات ونحكم على مرتكبها بالفسق والزندقة والضلال وما ذلك إلا للإجماع).


وهذا كلام خطير في الحقيقة أنه يعترف، وبكل بساطة، بإغلاق باب الاجتهاد والتفسير والتأويل وفهم الدين بناء على أفهام بعض الناس واحتكارالكلام باسم الله وتكفير وتفسيق وتبديع المخالف ولكن الأخطر في هذا الكلام نقطتان.


أولا: قوله (أخبار الآحاد التي تقبل التأويل).. فما دامت تقبل التأويل باعترافكم فلم الحجر على استمرار الاجتهاد فيها؟ ومادامت أخبار آحاد، بمعنى أن عدد رواة الحديث قليل أو قد يكون الراوي شخصًا واحدًا، فبالتالي يكون الحديث أصلا ظني كيف تستفاد حجة قطعية من دليل ظني؟


ثم يقول إن الأمة متفقة على تكفير جاحدها أو مؤولها بسبب الإجماع !! في الحقيقة تعمّدت أن لا أستشهد ببعض الأمثلة في هذه النقطه تحديدا، لأن الأمثلة قد تكون صادمة جدا، ولكن سيتضح الكلام عندما نتكلم لاحقا عن  السنة وحجية خبر الآحاد.


ثانيا: كلامه عن تأويل الآيات القرآنية أي تفسيرها يقول إنها تحتمل التأويلات ثم يصفها بالبعيدة، وهذا الوصف نسبي أي أن ما يراه هو بعيدا قد يراه غيره قريبًا، ثم يعترف بأن دلالتها ظنية أي محتملة وليست قطعية، ثم يقول إننا نمنعها ونحكم على مرتكبها بالفسق والزندقة والضلال لأنه خالف الإجماع!! أليس هذا مناقضًا لمقولة إن القرآن صالح لكل زمان ومكان، فكأنّهم حولوا الأمر لأن يكون فهم البشر للقرآن صالح لكل زمان ومكان.


لهذا لن أمَلَّ من تكرار قولي بأنه لا يجوز مساواة المُطلق بالنسبيّ، ولا مساواة كلام الله بأفهام البشر، ويجب التفريق بينهما، فلا قدسية إلا للوحي وما الوحي إلا النص الخالص المجرد من بصمة التاريخ والجغرافيا.