اليوم ليس ككل يوم، إنه عيد ميلاد الزعيم، اليوم يكمل ناصر عامه الـ97؛ ففي 15 يناير من عام 1918 ولد الرجل الذي قال عنه الشيخ محمد متولي الشعراوي "فلتة زعامة وأمة قيادة وفوق الأسطورة للريادة؛ لأن الأسطورة خيال متوهم وما فوق الأسطورة واقع مجسم"، رغم أن الشعراوي كان من معارضيه خلال حكمه لدرجة أنه صلى ركعتين شكرا لله بعد هزيمة 1967.

ولا أدري إن كانت مصادفة أم أن التاريخ ينتقي أيامه ليهبها للناس على قدرهم، ليكون عيد ميلاد جمال عبدالناصر على قدره... عموما لقد قررت أن أنظم لأبوخالد حفلا في مقالي يشترك فيه من شاركوه يوم ميلاده.

أردت اختيار قاعة ملكية فخمة في فندق 7 نجوم، فرفض عبدالناصر وطلب مني أن أقيمه في حديقة منزله البسيط في منشية البكري، فاشتريت زينة من محل اكسسوارت بسيط ونصبناها، و"تورتة" من محل متوسط لم يتعدى ثمنها 150 جنيها، ودستتين جاتوه لم يتجاوز ثمنهما 400 جنيه، ومشروبات غازية بـ100 جنيه، فلما علم "ناصر" بتلك المبالغ التي وصل مجموعها 600  جنيه، عاتبني بشدة، وقال هذا بزخ!

قلت له: ياريس هذه المبالغ وقت وجودك قبل عام 1970 كانت تشتري أكثر من فدان أرض، لكنها الآن لا تكفي لشراء السلك الشائك الذي قد تحدد به الأرض، فالعملة تضخمت ومات أنجال الجنيه كلهم من أول ابنه البكري المدعو "مليم" مرورا بـ"التعريفة والقرش والنكلة والشلن والبريزة وحتى الريال فتى الجنيه المدلل"، ولم يتبقى بجوار الجنيه سوى نصفه وربعه اللذان يعانيان معه من عدم الاحترام وقلة القيمة... فتنهد ناصر وسكت، ثم صعد إلى غرفته ليرتدي ملابس الحفل.

ظهر ناصر شامخا منتصب القامة، مرتديا بدلة رمادية اللون من إنتاج مصانع غزل المحلة، وبدأ الحفل بغناء للمطرب الشعبي، شفيق جلال الذي ولد في مثل هذا اليوم من عام  1929، وقال مواله " ياخسارة الحر لما تغيره الأيام .. يصفر لونه ويبقي عبرة للأيام"، فأسرعت وقلت له أوقف هذه الأغنية بسرعة؛ فالمخابرات قد تفسر كلامك بمنحى سيئ فتذهب وراء الشمس، فصمت على الفور ورفع حاجبيه بطريقته المعتادة وأخذ يغني "شيخ البلد خلف ولد".

بدأ ضيوف الزعيم يتوافدون، وكان على رأسهم ثائر أمريكا الأسود مارتن لوثر كنج، المولود في 15 يناير من عام 1929، والحاصل على جائزة نوبل للسلام لنضاله من أجل حقوق أبناء عرقه في مساواتهم بالبيض في الولايات المتحدة، ودفع حياته ثمنا لقضيته باغتياله على يد مواطن أبيض متعصب.

بينما يحيّى ناصر مارتن لوثر بحياء، إذا به يلمح المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة، وزير الدفاع الذي ولد في مثل هذا اليوم من عام 1930، فحياه ثم داعبه بلطف قائلا: كفاءتك العسكرية تعجبني، وأريد أن أشكرك على برنامج الصواريخ الباليستية الذي تعاونت فيه مع الأرجنتين بدعم من العراق لإنتاج الصاروخ "بدر2000"، صحيح أن أمريكا أجهضته لكنك بذلت فيه مجهود عال... تقبل تحياتي.

من معازيم الرئيس عبدالناصر في عيد ميلاده كان ملك السعودية، سعود بن عبدالعزيز آل سعود، المولود في مثل هذا اليوم من عام 1902، بمجرد أن دخل صافحه ناصر وقال له: أي نعم أنا ضد أي نظام ملكي رجعي وكثيرا ما هاجمتك أنت وأسرتك، لكني أتعاطف معك في خلع أخيك فيصل لك وتوليه الحكم بدلا منك، وفي النهاية أنت في منزلي ولك التحية.

لمح الزعيم، الروائي الفرنسي الساخر موليير قادما، فطلب مني أنا أنادي على المترجم لينقل عنه كلامه، ثم تقدم رائد المسرح وحيا ناصر قائلا: سيادة الرئيس أنا سعيد أني ولدت معك في نفس اليوم ولكني أكبرك بقرون؛ فأنا مولود عام 1622، أي قبلك بـ300 عام، ولو تسمح لي بتقديم بعض أعمالي المسرحية في القاهرة... هل تعجبك "طرطوف، أم الطبيب رغما عنه، أم  المريض بالوهم، أم مبغض البشر"... فقاطعه ناصر: كلها مسرحيات جميلة ولكن بعد الحفل نتكلم.
التفت عبدالناصر فرأى شابا ممشوقا ممتلئ بالصحة يدخل الحفل بكبرياء، فقال لي : هل هذا هو منتظر الزيدي الذي حدثتني عنه؟
قلت له نعم ياسيادة الرئيس هو الصحفي العراقي مراسل قناة البغدادية منتظر الزيدي، المولود في مثل هذا اليوم من عام 1979، والذي قذف الرئيس الأمريكي جورج بوش بالحذاء، في  حادث نقلته كل وسائل الإعلام العالمية.

أقبل ناصر على منتظر وسلم عليه بحرارة، قائلا له: أحييك، ما فعلته قد يراه البعض أهوجا ولا يليق باستقبال رئيس ضيف، ولكن بوش مستعمر محتل وكان لابد أن يواجه بالسلاح قبل الحذاء.

بعد قليل حضرا مبتسمين الفنانين محمد نجم وأحمد آدم، فالأول مولود في مثل هذا اليوم من عام 1944، والأخير الشهير بالقرموطي مولود في عام 1958، فصافحا الزعيم ثم جلسا في وقار غير معتاد بالنسبة لهما على إحدى الطاولات.

ثم وصل عصام الحضري حارس مرمى النادي الأهلي ومنتخب مصر، المولود في مثل هذا اليوم من عام 1973، فحيا الرئيس على طريقة لاعبي الكرة حين يفوزون بالبطولات، فانحنى قليلا ونظر  إلى الأرض وقال بسرعة: كل البطولات اللي حصلنا عليها بفضل رعاية سيادتك يا فندم... فقال له الزعيم: انت بطل يا عصام.. خلي بالك كونك ملقب بالسد العالي دا دليل على إنك عملاق.

وقف ناصر أمام منصة؛ ليحيي الحضور جميعا بكلمة، فقال: أيها الإخوة... أشكركم على حضوركم ويسعدني أنكم ولدتم معي في نفس اليوم؛ وأحب أن أقدم  لكم أمين القومية العربية، معمر القذافي الذي تولى رئاسة وزراء ليبيا في مثل هذا اليوم من عام 1970، ولكني عاتب عليه لأنه ترك نفسه يترهل حتى انتهى نهاية بشعة... كما لا يفوتنا أن نتذكر ونحن نحتفل بميلادنا عالم جليل رحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم من عام 1950، إنه الدكتور علي مصطفى مشرفة أو "أينشتاين العرب" كما أطلقوا عليه، الذي وصل من النبوغ لدرجة جعلت الشكوك تحوم حول قتله مسموما على يد المخابرات الإسرائيلية.. وفي النهاية لا ننسى أن اليوم هو ذكرى الاحتفال بافتتاح السد العالي في مثل هذا اليوم من عام 1971، والذي يعتبر أيقونة المشاريع التنموية والكفاح ضد الاستعمار في مصر... وأخيرا أيها الإخوة أقول لكم للمرة الثانية "كل سنة وانتو طيبين" والسلام عليكم ورحمة الله.