كنائسهم في مساجدنا
جاري الجديد، دكتور هاني، رجلٌ مهذب وقور، في بداية الأربعين. رجع من أمريكا منذ أسبوعين.. تعرّفتُ عليه ثاني يوم سكن، خاصة أنه كان عايز يبيض الشقة المُغلقة منذ سنين.. وأخبرته عن الأماكن والصنايعية.. والنهاردة اكتمل كل شيء عنده في الشقة فعزمني على العشا.
صينية مكرونة بالبشاميل..
لكنه لأول مرة يكلمني وهو متوتر.. يقول:
- أستاذ محمد، فيه معلومة عايز أقولها لحضرتك يمكن يكون عندك أي تحفظ.
- خير..
- أنا مسيحي..
- ههههه أيوة فين المشكلة.
- بعض أصدقائنا المصريين كانوا مش بيحبوا يختلطوا بالمسيحيين في المهجر. أو يأكلوا في بيوتهم، فمش عارف إذا كان عندك تحفظ ولا لأ.
- يبقى سهرتنا طويلة يا دكتور هاني..
وبعد العشاء جلسنا في الأنتريه، وامتد الحوار لأكثر من ثلاث ساعات.
يقول:
- صورة الإسلام سيئة جدا في أمريكا، يعتبرونه دينا قائما على الإرهاب والكراهية ومعاداة الحضارة ومخاصمة الدين المسيحي الذي يشكل تابعوه حوالي 2 مليار إنسان في أغلبية 120 دولة.
- تعرف دكتور هاني إن أقدس شيء لدى أي دين هو دار عبادته، وأهم شعيرة لدى كل الأديان هي الصلاة.. كأساس.. تعرف أن النبي محمد استقبل نصارى نجران، مسيحيين، داخل المسجد.. مسجد الرسول..! وعاملهم بحفاوة واحترام وناقشهم في كل شيء بهدوء ورقي.
كان ممكن يرفض دخولهم إلى المسجد ويستقبلهم في أي مكان آخر. لكنّه لم يجد حرجا أن يوجد مسيحي داخل مسجد الرسول.
وأثناء النقاش حانت الصلاة، صلاة المسيحيين أقصد، وكان معهم أحد القساوسة داخل مسجد الرسول.. المكان الأقدس بالنسبة لنا كمسلمين، وأرادوا الخروج لإقامة صلاتهم.. رفض الرسول، وعن كرم ومودة عرض عليهم الصلاة هنا. داخل مسجده.
أفسح لهم مكانا مناسبا. وتركهم يتعبدون إلى الله. كما يرونه في عقيدتهم.
وهذا كان المشهد الأول المؤسس والكاشف لطبيعة محمد رسول الإسلام.. مساجد المسلمين يُصلي داخلها المسيحيون. النصارى. برضا ومحبة واختيار.. وتحت سمع وبصر وحماية نبي الله والرجال من حوله.
وكان ذلك في وقتٍ متأخر عام 10 للهجرة أي نهاية حياة الرسول قبيل وفاته بشهور، حيث ثبات المعاملات واستقرار الأحكام.
هل نستطيع أن نعرض على المسيحيين الصلاة داخل الجامع الأزهر الشريف كطريقة لإحياء سنة الرسول في استقبال المسيحيين داخل أقدس المساجد!
أم أننا أكثر حرصًا على مساجدنا من نبي الإسلام..؟
ولو كان الأمر كذلك هل هناك بادرة محبة وسلام. وقبول لاختلاف العقائد. وإقرار حرية كل دين في العبادة مثل هذا!
وقبل أن يرحلوا كتب الرسول عقد صلح وأمان بينه وبينهم، عقد ثابت يحكم علاقة الإسلام بالمسيحيين عموما، يضعهم في جوار الله وذمة محمد. وهي أعلى كلمات الحماية والتقدير لدينا في الإسلام.. جوار الله وعهد رسول الله.
ويقرر الحماية والرعاية لأموالهم وأنفسهم وملتهم وكل ما تحت أيديهم. وفي هذا العقد يقول الرسول: "وأن أحرس دينهم أين كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي. فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين حتى يكونوا شركاء للمسلمين."
ومن أهم البنود في المعاهدة، ألا يذهب لأرضهم جيش.. وهو التزام بالسلام الكامل بين الرسول وبينهم فلا حرب ولا تطاحن ولا قتل وقتال.. أيضا ألا يعتدي أحد على أسقف في سقفاه ولا راهب في رهبانيته. ولهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير.
(الطبقات الكبرى لابن سعد 288/1)
يقول ابن القيم: "فى القصة جوازُ دُخولِ أهلِ الكتاب مساجدَ المسلمين، وفيها تمكينُ أهلِ الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم" (زاد المعاد577/3).
بعض المسلمين يرفض حضور أعياد الميلاد أو حفلات الزواج أو حتى الاحتفال في الكنائس لأن فيها ما ينافي الإسلام ويضاد العقيدة. هكذا يبرر لنفسه التشدد والمخاصمة.. في حين أن الرسول شهد في مسجده صلاة المسيحيين. فمن يتبع الإسلام ومن يحرف فيه؟
القرآن الكريم دكتور هاني، يحدد طريقة التعامل مع أهل الكتاب.. اليهود والنصارى:
"وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ? وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَ?هُنَا وَإِلَ?هُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ".
الآية تكلف المسلم أثناء حديثه للمسيحي أن يختار أحسن ما لديه من أساليب الحوار وأرقاها ليجادله في مسألة ما.
الإسلام يأمرني أن أختار أفضل ما لدي من كلمات. فهل من المعقول أن يأمرني بعدها أن أخيفه أو أعتدي عليه بأدوات الحرب.
أعرف أن هناك من سيذكر آية (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) دون أن يُدرك أنها خاصة بالذين ظلموا.. وهم أهل الحرب.
ثم، يبحث عن مساحة للاتفاق، ثابت مشترك بين الجميع، بادرة تقارب ومعايشة تجنبا للخوض في التفاصيل وإثارة الخلافات.. نحن من نبادر ونقول للمسيحي واليهودي.. نحن مشتركون في إله واحد. مؤمنون بما لديكم من أنبياء ورسل.. مؤمنون بالثوابت الكبرى، الله، يوم البعث، الثواب والعقاب.
ومن هنا تبدأ الحياة المشتركة التي تفترض الحوار والسلام.. وتنبذ العداء والصراع.
إلا الذين ظلموا. وهم لهم آيات أخرى في القرآن خاصة بهم تعاملهم بقسوة. لكن أنصاف المتعلمين - المتنطعين- يظنون أن للكل معاملة واحدة. ويحتج بآيات القتال الاستثنائية والخاصة، يريدون تطبيقها في مواطن السلام التي تُمثل غالبية الحياة. ويريد أن يسحب الاستثناء على عموم القاعدة.
وعندما أباح الرسول الزواج من أهل الكتاب.. فهو يفترض المحبة بين اثنين.. مسلم ومسيحية.. يفترض المودة والرحمة والسكن وهو ما ينبني عليه الزواج عندنا.. وينشأ الابن المسلم لأبيه ينتمي لخال وخالة وجد وجدة مسيحيين يحبهم ويزورهم ويصلهم ويأكل عندهم ويعيش جزءًا كبيرًا من حياته هناك.
مش معقول يقولي تزوج مسيحية. ليأمرني بعدها أن أخاصم أهل زوجتي. فينشأ ابني على القطيعة والخصام. في حين أن أهم تعاليم الإسلام صلة الأرحام.. الأرحام هنا الموصى بهم في هذه الحالة مسيحيون.
يفترض أن ابني أمه مسيحية.. يحبها.. ويحترمها ويحترم دينها.. وينشأ الولد، ابني المسلم، يرى في البيت الإنجيل وسورة العذراء، ويرى أمه تصلي ليسوع وتذهب للكنيسة وتصوم وتحتفل بالأعياد.
هل تظن أن بيتا واحدا أراده الله للمسلم أن تشاركه فيه مسيحية تحمل الإنجيل وتذهب للكنيسة، يفترض فيه الاحترام والمحبة أم الكراهية والشقاق؟
تلك أهم علاقة بشرية، وأهم مؤسسة، مؤسسة الزوجية أراد الله أخوتي المسيحيين جزءًا من تكوين أسرتي، خال ابني وجده، يربونهم ويشاركونهم حياتهم اليومية، المستقبل والطموح والذكريات.
أيضًا طعام الذين أوتوا الكتاب حِل لكم، بنص الآية في سورة المائدة، وهي أهم ثاني رابطة تجمع البشرية، الاشتراك في رغيف خبز واحد. لقيمات يتقاسمونها.. لتنشأ روابط الصلة والمحبة ويدور الحوار الإنساني وما فيه من دعابة ودفء وتقارب.
هكذا يريد الله المسلم.. محبًا ودودًا قريبًا مسالمًا لغيره من الديانات.
طبعًا إلا الذين ظلموا والذين لهم ما يستحقونه.
وجاء في العهد الذي كتبه الرسول للنصارى بخصوص هذا الشأن.. "لا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم. إن أحبوه ورضوا به.
وإذا صارت النصرانية عند المسلم، فعليه أن يرضى بنصرانيتها ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها والأخذ بمعالم دينها.. ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينه فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق الرسول وهو عند الله من الكاذبين".
يعني اللي يتجوز مسيحية عليه أن يحترم دينها، ويترك لها حرية مطلقة في اختياراتها الدينية وطاعة رجال الدين.. ولو المسلم ظلمها أو غصب عليها لتطيعه في شيء من أمر دينه، وهو دين الإسلام الذي في نظرنا حق، فهذا الرجل قد ارتكب أكبر الجرائم. خان عهد الله. وهو عند الله من الكاذبين.
يعني عشان ربنا يحبك. احترم المرأة المسيحية.
- مش ناوي تعزمني على مكرونة بالبشاميل تاني.
- عنيا