طريق الموت وطريق العلمانية
في رحلة الحياة القصيرة، ثمة طريقان اثنان، على المرء أن يختار من بينهما أيهما يسلُك، وصولاً إلى نقطة الأجل.
الأول: طريق الحياة، والثاني: طريق الموت!
الطريق الأول تقع فيه الحياة على جَنَبات الطريق ذاته، فيه الدنيا متعة، ذلك طريق العلمانية، طريق العالم المادي المحسوس، عالم الشهادة، لا عالم الغيب.
الطريق الثاني، تبدأ فيه الحياة "الحقيقية"، حيث ينتهي الطريق، فالدنيا في نظر سالكه دار عبور من نفق الموت، إلى دار القرار. ذلك طريق الدين، طريق المتع المؤجلة، والطائفية الحاضرة.
أول قوانين المرور عبر الطريق الأول نصه: "الطريق للجميع"، يحظر الدخول فقط على من يرفض تطبيق هذا القانون السهل الصعب. سهل على مرتاديه، صعب على رواد الطريق الثاني، ذلك لأن دستور الطريق الثاني يقول: لا يمر من هنا سوى من يُشبهنا، لا يرافقنا سوى نظرائنا، لا يقود ركائبنا إلى الجنة سوى "رجل" منا.
في الطريق الأول؛ تكاد تختفي المضايقات، والمعاكسات، والإملاءات، والحجر على الحريات، فكل راكبٍ مشغولٌ بنفسه، بحيزه، لا أحد يهتم بمركبة غيره، لا شكلها ولا قوة دفعها، ولا طريقة سيرها.
في الطريق الثاني، لا أحد ينظر إلى الأمام أصلاً، الكل مهموم بغيره، لا يطمئن المسافر عبره سوى برؤية الجميع سائرين مثلما يسير هو، بالطريقة نفسها، بقوة الدفع ذاتها. في الطريق الأول، الكتب المقدسة مكانُها السيارات، أما في الثاني، فالمصاحف تُقرأ في الطرقات.
عدادات السرعة قطعة ديكور
في الطريق الأول؛ أولوية العبور تحددها "المصلحة". وتكمُن المصلحة في سرعة الوصول للأمام، في اكتشاف مزيدٍ من "الجنان" على جنبات الطريق، لسبر أغوارها، والولوج إلى أسرارها. لذا، فسالكو الطريق أنفسهم لا يسمحون لأحد بالرجوع إلى الخلف، فضلاً عن غياب فتحات الدوران أصلاً.
وهنا يكمُن السر وراء غياب الزحام، وظهور الطريق، على كثرة مرتاديه، كما لو أنه صفٌ مرصوص، يوّحده هدف، ويصطف خلف غاية، يسعى خلفها الركب بسلاسة. من يريد النظر إلى الوراء يستخدم المرآة، لذا؛ فعدادات السرعة هنا على أقصى ما يكون.
في الطريق الثاني؛ تعجُ جنبات المسار الضيق بإشارات الدوران للخلف. ذلك لأن المصلحة ليست في الأمام. ليست في المستقبل. بل في الماضي، في محاكاته، في تقليد ركابه الأقدمين. لا أحد هنا يستخدم المرآة في غير أغراض "المكياج"، لذا؛ يبدو مرتادو الطريق وكأنَّهم على خشبة مسرح هزلي، في محاولاتهم استخدام الجياد والإبل على الطرق الأسفلتية.
خفف السرعة من فضلك! إحدى النكات على الطريق الثاني، فعدادات السرعة لا تعمل أصلاً، قطعة ديكور هي، لا هدف لها ولا غاية.
دستور الطريق الثاني يقول: لا يمر من هنا سوى من يُشبهنا، لا يرافقنا سوى نظرائنا
عدادات الموت وحدها تعمل
في الطريق الأول؛ تكاد الحوادث أن تختفي، ويظهر عدّاد القتلى كما لو أنه في حالة عُطلٍ دائم، وذلك سببه حِرْص المرتادين على الحياة، مواصفات الأمان على الطريق صارمة، ذلك لأن أصحاب الدرب أنفسهم حريصون على البقاء أبلغ حرص، لا يبغي أحدهم أن تفوته مُتعة. ولا يملك القائمون على تنظيم المرور سوى أن يكونوا على دين شعوبهم، لا يمكلون سوى الحرص على حيوات ركابهم حِرْص الركاب عليها.
في الطريق الثاني؛ عدادات القتلى في حالة سرعة جنونية. عدادات الموتى وحدها تعمل، فالأمان غائب تمامًا، ويجب أن يغيب، لأن الموت هو الهدف الأسمى لرواد الطريق، والحياة، عندهم، لعب ولهو واستهتار بالممتلكات والأرواح. لا يملك القائمون على مشاهدة الطريق سوى أن يكونوا على دين الركب. مهما قال الشعب: الناس على دين ملوكهم.
الناس هنا يقولون: دعه يموت لعلنا نلحقه
في الطريق الأول؛ نفخة إسرافيل في السور تعني إطلاق سارينة إسعاف. تقوم قيامة الركاب والمارة إذا ما نفخ قائد المركبة في البوق. يُحشر الناس طوعًا، يمينًا ويسارًا، لتسهيل مروره، فحياة مَنْ بالداخل ثمينة، يُدرك الجميع قيمتها، ولا يتمنون له ولا لأنفسهم نقصانها.
في الطريق الثاني؛ لا يُحرك المارة ولا الركاب ساكنًا في ذات الموقف. فعلى أية حال، الموت بالنسبة لمن بالداخل أفضل، يتمناه الأحياء أنفسهم أصلاً. سارينة الإسعاف، مجرد ضوضاء مضافة إلى حالة الإزعاج الأبدي. يجيب رواد الطريق على مُطلقها: دعه يموت لعلنا نلحق به قريبًا.
الطريق الأول، اختاره الرجل الغربي، بعد أن جرب ويلات الطريق الثاني، بعد أن سقط قرابة العشرة ملايين مسيحيّ في حوادث الطرق، عفوًا في حوادث الطائفية والإرهاب.
الطريق الثاني مازال هو الخيار الأفضل أمام الرجل الشرقي، ذلك لأن الموت هدفه، ولا قيمة للحياة عنده!