هل مستقبلنا صيني أم هندي؟
هذان نظامان مختلفان جدا. هما يشكلان معًا جزءا كبيرا من مستقبل الاقتصاد العالمي. الأنظار تتوجه إليهما، لأن ما يحدث في هذين البلدين سوف يحدد شكل العالم بعد عشر أو عشرين سنة.
هل نتخيل مصر-المستقبل بوصفها الصين الناهضة، التي سيتجاوز حجم اقتصادها الاقتصاد الأمريكي هذا العام (بحساب القوة الشرائية)، أم الهند.. ذلك الاقتصاد البازغ الذي يضم أكبر عدد من الفقراء على مستوى العالم؟
(1)
أهم ما يميز النظام الصيني هو المركزية السياسية ممثلة في الحزب الشيوعي. لا مكان في الصين للأحزاب أو التعددية. حرية الرأي والتعبير مقيدة أو غائبة. هو نظام سلطوي محكومٌ من أعلى. الدولة لها سيطرة شبه كاملة على المجتمع.
من الزاوية الاقتصادية، يتيح هذا النظام مزية كبرى للدولة لأنه يمكنها من حشد الموارد والإمكانات وتوجيهها للخطط الاقتصادية والتنموية. في الصين، وحتى وقت قريب، كانت الأرض كلها مملوكة للدولة. الحكومة الصينية تستطيع تخصيص أي قطعة أرض في أي مكان في الصين لأي غرض.
بإمكان الحكومة طرد أي عدد من الأشخاص من أراض زراعية لتحويلها إلى مصنع. (الحقيقة أن هذا هو ما يحدث فعلاً على أرض الواقع، وفي عام 2013 سجلت الاحصاءات الحكومية الصينية 87 ألف واقعة تظاهر في المناطق الريفية).
المركزية السياسية تمنح الصين مزية أخرى: الاستقرار السلطوي. صحيحٌ أن الصين ليس بها نظام ديمقراطي يرسم عملية انتقال السلطة. ولكن هناك "منظومة" للخلافة السياسية داخل الحزب الشيوعي تسمح بانتقال السلطة سلميًا بين قياداته.
هناك منظومة أخرى، غير ديمقراطية أيضًا ولكنها مستقرة، لترقي القيادات السياسية داخل الحزب. هذا الاستقرار السلطوي يمثل عنصرًا جوهريًا لاستمرار النمو الاقتصادي، لأنه يمنح المستثمر المحلي والأجنبي ثقةً في المستقبل.
(2)
أهم ما يميز الهند هو نظامها الديمقراطي.
الهند هي أكبر ديمقراطية في عالم اليوم. النظام الديمقراطي في الهند ليس مثاليًا. من قرأ رواية "أرافيند أديجا" (النمر الأبيض) يُدرك البَوْن الشاسع الذي يفصل الديمقراطية الهندية عن مثيلاتها في الغرب.
نواقص الديمقراطية الهندية لا تُخفى: الفساد، الفقر المُدْقِع الذي يُفرغ الممارسة الديمقراطية من معناها، تصاعد القومية الطائفية والمتطرفة ممثلة في الصعود الصاروخي لحزب "بهاراتيا جناتا"، وتراجع حزب المؤتمر..إلخ.
قل ما شئت في الديمقراطية الهندية، لكنها – في النهاية- تظل ديمقراطية: الحُكام يأتون ويذهبون بصندوق الاقتراع النزيه.
هذه الديمقراطية ليست بالضرورة شيئًا جيدًا بالنسبة للاقتصاد. قدرة الحكومة الهندية على تحقيق التنمية محدودة بآليات الديمقراطية نفسها. لا تستطيع الحكومة- مثلما الحال في الصين- أن تُهجر سكان قرية بجرة قلم من أجل بناء خط سكك حديدية أو إقامة مصنع.
(3)
الصين سبقت الهند في مضمار التنمية.
معدل النمو في الصين أسرع. البنية التحتية أفضل. التعليم والخدمات الصحية أحسن حالاً. استطاعت الحكومة الصينية في الأعوام الثلاثين الماضية، ومنذ بدأ "دنج شاو بنج" إصلاحاته الاقتصادية في أواخر السبعينيات، أن تُخرج الملايين من الفقر.
على الناحية الأخرى، الهند بها أكبر عدد من الفقراء في العالم. بنيتها الأساسية في حال مُزريّة. يكفي أن نقول إن رئيس الوزراء الجديد "مودي" يضع- من بين أهدافه-القضاء على ظاهرة "التبرز في الخلاء" !
(4)
الصين والهند تعتنقان النظام الرأسمالي كأساس لعمل الاقتصاد.
الصين بدأت مبكرًا مع إصلاحات "دنج". تحركت بسرعة نحو الرأسمالية والتحرير الاقتصادي. النظام الصيني لا يقوم على المنافسة الكاملة. الدولة تلعب دورًا مهمًا في توجيه الاقتصاد ووضع الأولويات.
من بين أكبر 42 شركة في الصين، تُعتبر ثلاث فقط شركات خاصة. الدولة هي التي تُعين كبار المديرين في الشركات، وتُسيطر على الاستثمارات في القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة وتكنولجيا المعلومات.
الهند بدأت متأخرة. سعت منذ التسعينيات إلى تحرير الاقتصاد. مازالت تتعثر في فتح المجال أمام الاستثمارات. البيروقراطية الهندية خانقة، ومكافحة الفقر تحتل أولوية لدى السياسيين. الهند تحتل المرتبة الـ 142 من حيث سهولة إقامة المشروعات الجديدة. هناك 64 مطلوبة من أجل بدء أي "بيزنس" جديد.
(5)
برغم هذا السجل المُبهر للصين مقارنةً بالهند، فإن مستقبل مصر يبدو "هنديًا" أكثر منه "صينيا"! يمكننا مناقشة ذلك من زاويتي السياسة والاقتصاد..
كلمة السر في المنظومة الصينية هي النظام السياسي الحديدي. إنه النواة الصلبة التي ترتكز عليها التجربة كلها. هذا النظام يعتمد على حزب واحد وعقيدة سياسية جامعة ونظام للترقي والتصعيد السياسي داخل الحزب والدولة.
لا يُمكن لمصر أن تُقيم نموذجًا مماثلاً حتى ولو أرادت. الواقع الاجتماعي والاقتصادي يحول دون ذلك. قد تكون التجربة الديمقراطية في مصر غير مكتملة. قد تواجه عثرات في المستقبل، ولكن ليس معنى ذلك أن الطريق إلى إقامة نظام شمولي كامل صار مفتوحًا. صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، أن يكون للدولة المصرية نفس النفاذ والسيطرة على المجتمع اللذين تتمتع بهما الدولة في الصين.
بعبارة بسيطة: مصر ليس في إمكانها أن تسلك طريق "التصنيع السريع من أجل التصدير" الذي سلكته الصين. يحتاج هذا الطريق إلى سيطرة كاملة من جهاز الدولة على المجتمع والاقتصاد والسياسة. يتطلب أيدلوجية شاملة، وتنظيمًا حزبيًا يكون عمادًا للحشد السياسي والتنظيم الإداري للدولة وتوجيه الاقتصاد.
الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر لا يُشير إلى هذا الطريق. المجتمع في مصر "نصف مفتوح"، وهو أقرب إلى النموذج الهندي المفتوح، منه إلى النموذج الصيني السلطوي المُغلق.الاستقرار السلطوي يتحقق في مصر بالحفاظ على صيغة المجتمع نصف المفتوح، وليس بإغلاق المجتمع والسياسة كُلياً كما في الحالة الصينية.
هذا من ناحية السياسة، أما من الزاوية الاقتصادية فمن المهم أن نُدرك أنمصر ليست بلدًا صناعيًا، ومن الصعب أن تكون كذلك- بالمعنى التنافسي- في وقت قصير.
اقتصاد مصر خدمي في الأساس، إذ يُسهم قطاع الخدمات بأكثر من نصف الناتج القومي الإجمالي. وكان هذا القطاع هو الأسرع نموًا، مقارنة بالقطاعات الأخرى، في السنوات التي سبقت 25 يناير. (في الهند حالة مماثلة: الخدمات تسهم بنحو 56% من الناتج الإجمالي، وتنمو بمعدل 9% سنوياً منذ 2005).
الاقتصاد المصري مهييء لمحاكاة قصص النجاح في الاقتصاد الهندي الناشيء خاصة في قطاع الخدمات الذي يعتمد على عدد هائل من خريجي الجامعات (20 مليون سنوياً). التحدي أمام الهند، كما هو في مصر، هو الارتقاء بمهارات هؤلاء الخريجين لمستوى يمكنهم من المنافسة وجذب الاستثمارات الدولية.
(6)
بعض النماذج التنموية تبدو مبهرة للناظر من بعيد. من المهم في هذه المرحلة الحاسمة أن نختار النموذج التنموي الذي يوافق واقعنا الاقتصادي والاجتماعي.
في نهاية الأمر، سيكون الطريق الذي نسلكه هو طريقنا نحن. لا تجربة تشبه الأخرى. مستقبلنا سيكون مصرياً.