انهيار الأمن في ليبيا.. خطر يهدد دول الإقليم
تعيش ليبيا أوضاعا أمنية متدهورة بسبب الصراع المسلح متعدد الأطراف، الذي تشهده البلاد منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، وبروز نخبة سياسية فشلت في التوافق على ترتيبات المرحلة الانتقالية، فضلا عن إخفاقها في التعامل مع المجموعات المسلحة، والسماح لهم بالسيطرة على أنحاء مختلفة من البلاد.
وصل الأمر لدرجة منح المؤتمر الوطني العام الشرعية للكثير من التشكيلات العسكرية بعد نهاية الحرب مع كتائب القذافي لأسباب رآها مقنعة ومؤقتة، غير أن هذه المليشيات وقياداتها فضلت وجودها وامتيازاتها، كما أن القوى السياسية المتصارعة في ليبيا وجدت في ظاهرة المليشيات فرصة لتوظفها كأذرع عسكرية في صراعها مع بعضها البعض.
كل هذه الظروف تضافرت لعرقلة إنشاء جيش نظامي وجهاز شرطة وطني، يحتكران القوة دون غيرهما، ويستطيعان جمع السلاح بما يسهم في تحقيق الأمن ووأد موجات الصراع المسلح التي تندلع بين فترة وأخرى بين الأطراف المختلفة.
وتُطرح بإلحاح بعد سقوط نظام القذافي، إشكالات إعادة ترميم المؤسسة العسكرية الليبية الضعيفة أو المعدومة أصلا، ما جعل التشكيلات الثورية تشعر بأنها تسد فراغا في تأمين المدن والقرى والإشراف على إدارة الملفات الأمنية والعسكرية في ظل غياب منظومة أمنية يركن إليها تكون قادرة على استيعاب المليشيات الثورية وامتصاصها.
العجز في إعادة صياغة المؤسسة العسكرية والأمنية وفقا لقواعد المنظومات الأمنية في الدولة الحديثة، جعل مظهر المليشيات يستمر دون أن تكون له القدرة على المساهمة في الاستقرار، وبات انتشار السلاح على المستوى الفردي والشعبي يشكل مظهرا من مظاهر غياب الدولة، التي لم تتأسس لها طيلة حكم القذافي أجهزة عسكرية مستقرة.
القوة بديلا للديمقراطية
انعكس فشل المسار السياسي الليبي في بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وفي القلب منها تأسيس جيش نظامي وجهاز للأمن الداخلي، على الأوضاع الأمنية في البلد الغني بالنفط، ما أدى إلى اشتعال الصراع المسلح الذي تبلورت بدوره في معسكرين رئيسيين، أولهما معسكر تحت اسم "عملية الكرامة" بقيادة اللواء خليفة حفتر، الذي شكل تحالفا واسعا يضم مقاتلين من قوات الجيش في عهد القذافي، والآخر تسيطر عليه قوات "فجر ليبيا" التي تنضوي تحت لوائها ميليشيات إسلامية على غرار "أنصار الشريعة".
ويرجع السبب الرئيس وراء عدم التوافق هذا إلى إدراك القوى السياسية المتصارعة في ليبيا أن ظهور مؤسسة عسكرية وطنية، واحتكارها للسلاح يؤدي منطقيا إلى اختفاء هذه المليشيات، ما يعني أن الفرقاء السياسيين سيكونون دون مقومات في حلبة صراع قد يضطر فيها أحدهم إلى الخروج على قواعد اللعبة الديمقراطية إذا كانت نتائجها لا ترضيه ولا تضمن له مشاركة قوية في السلطة، فمثل هذه المليشيات تبقى أدوات فعالة تلوح بها وتهدد بإسقاط المشهد السياسي على رؤوس الجميع في بلد لا توجد فيه قوة أمنية ولا جيش قوي يخضعان للسلطة الشرعية المنتخبة.
تداعيات التدهور الأمني في ليبيا
يفرض الوضع الأمني في ليبيا نفسه بقوة على المشهد العام، خصوصا أنه يتغذى على الأزمة السياسية ويغذيها في ذات الوقت، كما يساهم بدرجة كبيرة في فقدان الثقة بمؤسسات الدولة انطلاقا من أن الحكومة لم تنجح في السيطرة على انفلات الوضع الأمني، الأمر الذي دفع المدنيين لتشكيل لجان حماية شعبية، تُمنح لها الصلاحيات الأمنية والدعم المالي الكامل وتخضع لها قوات الشرطة والصاعقة.
التحول الديمقراطي
انعكس تدهور الوضع الأمني سلبا على المسار الانتقالي سواء من حيث إنهاك المؤتمر الوطني، الذي كرس وقتا طويلا من جلساته لمناقشة انفلات الأوضاع الأمنية أو تفجر المواجهات المتكررة في الجنوب والغرب، ما أثر بدوره على عرقلة التحول الديمقراطي وإتمام ترتيبات المرحلة الانتقالية، وعدم القدرة على بناء نظام سياسي جديد يسمح بخلق مؤسسات جديدة للدولة الليبية على أسس ديمقراطية.
العجز الحكومي في ضمان الأمن، وانتشار جماعات مسلحة اكتسبت شرعية وجودها بمشاركتها في الثورة على القذافي، وافتقاد القيادات السياسية المنتخبة الشرعية الكافية لبسط سلطة الدولة على كامل الإقليم، وتنامي دعوات مرتبطة بشرعيات مناطقية موروثة من الماضي، كل ذلك جعل من الممكن إقدام بعض القوى على رفض الاعتراف بسلطة الدولة، بل والدعوة إلى الخروج عليها ولو بالقوة.
بؤر جديدة للإرهاب
أدى تراخي القبضة الأمنية للدولة الليبية إلى ظهور بؤر جديدة للجماعات المتطرفة التي ترتبط بعلاقات مع بعض التنظيمات الإرهابية الموجودة خارج ليبيا، حيث انتهى الحال بمدينة "درنة" لتتحول إلى أول إمارة متشددة بعد مبايعة المجموعات المسلحة فيها تنظيم "داعش"، لتخرج تماما عن سيطرة الدولة المنهكة أمنيا، وسط تخوفات من أن تتحول هذه المدينة الساحلية إلى ملاذ آمن للجماعات المتطرفة، بعد أن أصبحت موطنا لعدد منها، أبرزها "جيش الإسلام" و"أنصار الشريعة" و"كتيبة أبو سليم".
البناء الاجتماعي لـ"درنة" يجعل منها مطمعا للجماعات المتطرفة، باعتبارها مدينة غير قبلية على عكس ما جاورها من المدن، ما يسهل من عملية السيطرة عليها وإخضاع سكانها، أما موقعها الجغرافي فجعل منها مكانا استراتيجيا لا يسهل مهاجمته أو حصاره، فهي تطل على البحر الأبيض المتوسط وتعرف بتضاريسها الوعرة من جبال ووديان شكلت للمتطرفين غطاء من الهجمات الجوية.
وحيث أن تدهور الأوضاع الأمنية كان السبب الرئيس في سقوط مدينة درنة في أيدي المتشددين، فإن ذلك يعني أن الأمر مرشحا للتكرار في بعض المدن الليبية الأخرى، الاحتمال الذي تعززه تقارير إعلامية كشفت عن وجود اتصالات مستمرة بين جماعات من ورثة تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، ومقاتلين عائدين إلى ليبيا، كانوا قد شاركوا في القتال في سوريا والعراق، فضلا عن التنسيق بين الجماعات المتطرفة في جنوب ليبيا مع تنظيم "القاعدة" في المغرب العربي.
وتشهد مدينة بنغازي، أكبر مدن شرق ليبيا، منذ فترات طويلة معارك شرسة بين ميليشيات متناحرة، من بينها فصائل بعضها متصل بـ"القاعدة"، وبين قوات خليفة حفتر، فضلا عن رصد السلطات المصرية لمعسكرات تدريب متشددين في صحراء الشرق الليبي على بعد كيلومترات قليلة من الحدود المصرية، قد تكون نواة لتكوين تنظيم يسعى لمهاجمة مصر.
تداعيات التدهور الليبي على دول الإقليم
يشكل التدهور الأمني في ليبيا تحديا جسيما لدول الإقليم، ما دفع تونس للدعوة إلى عقد مؤتمر جوار ليبيا في يوليو الماضي لمناقشة سبل التصدي لتداعيات تصاعد أنشطة الجماعات المسلحة في ليبيا، الذي انتهى بقرار اتخذه المجتمعون لتشكيل لجنتين "الأولى أمنية وعسكرية تترأسها الجزائر لمقاومة الإرهاب وانتشار الأسلحة وبعث منظومة مشتركة لحماية الحدود، والثانية سياسية وتنسقها مصر تعني بالاتصال بالفرقاء في ليبيا لبحث إرساء حوار وطني ليبي، واستكمال تحقيق العدالة الانتقالية، وتعزيز مؤسسات الدولة ومسار الانتقال الديمقراطي، واللجنتان تحت رئاسة تونس.
وتكمن خطورة الانفلات الأمني في ليبيا على دول الجوار في أن الجماعات المسلحة الليبية ترتبط ارتباطا وثيقا ببعض التيارات المتطرفة في الدول المجاورة كجماعة الإخوان وأذرعها في تونس ومصر والسودان، ما يعني احتمال انخراط الميليشيات الليبية في القضايا الداخلية لدول الجوار، خصوصا بعد إطاحة الجيش المصري بالإخوان من الحكم في 3 يوليو، وخسارة حزب "حركة النهضة" التونسي للانتخابات البرلمانية، ومساندة حزب المؤتمر الحاكم في السودان ضد المعارضة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب متعددة الجبهات في دول الشمال الإفريقي.
كما أن ليبيا تحولت بعد سقوط نظام القذافي إلى سوق مفتوح للسلاح لتصل إلى أيدي مليشيات وعناصر قبلية وتنظيمات متطرفة، لتنتقل بعدها إلى دول الجوار عبر الحدود غير المنضبطة، وتزيد من تعقيدات التحديات التي تواجهها المنطقة في دوائرها الجيوسياسية، بعدما مكّن السلاح الليبي تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب، وحركات التمرد من السيطرة على شمالي مالي، فضلا عن ثبوت استخدامه في حادثة "عين آميناس" في الجنوب الشرقـي الجزائري، واستخدام مسدسات ليبية في الاغتيالات السياسية بتونس، وأحداث "جبل الشعانبي" التي خلفت عشرات القتلى بواسطة أسلحة خفيفة قادمة من ليبيا.
كل هذا يؤكد أن أمن الإقليم معرض لمزيد من التهديدات في ظل اضطراب الأوضاع الأمنية الليبية، إن لم تكثف دول المنطقة جهودها لمنع انتشار الأسلحة الخفيفة والحيلولة دون وصولها إلى أيدي المتطرفين.
ولم تقتصر تداعيات الانهيار الأمني في ليبيا على دول الجوار فحسب، لكنها امتدت لتهدد دول الجنوب الأوروبي من خلال انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ما سبب عبئا على دول شمال المتوسط بسبب زيادة عدد المهاجرين غير الشرعيين، وانتعاش عمليات التهريب وتجارة السلاح والمخدرات، وانتقال المقاتلين إلى مناطق الصراعات في الدول المجاورة.
مسارات المواجهة
يقول أستاذ النظم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور إبراهيم نصر الدين، إن المسار الأول والرئيسي لمواجهة الانفلات الأمني في ليبيا يكمن في ضرورة سرعة البدء في تأسيس جيش نظامي وجهاز للأمن الداخلي يكونا قادرين على فرض الأمن ونزح سلاح الميليشيات وإدماج مقاتليها في مؤسسة عسكرية تكون تابعة لسيادة الدولة الليبية وللسلطة الشرعية المنتخبة.
ويستلزم الشروع في تأسيس جيش وطني ليبي بحسب نصرالدين، اتفاق الشركاء السياسيين أولا على انتهاء الشرعية الثورية وتجاوزها إلى الشرعية المنتخبة ديمقراطيا لنزع شرعية الميليشيات ووقف رواتبها وامتيازاتها المالية التي تدفع بعضها من خزينة الدولة، وتجريمها قانونيا إن لم تضع سلاحها وتندمج في إطار مؤسسات الدولة.
وشدد على ضرورة تعزيز الرقابة الرسمية من مجلس النواب والقضاء وديوان المحاسبة، وتفعيل الرقابة الشعبية بقيادة منظمات المجتمع المدني، لمحاسبة المقصرين من التنفيذين المعنيين بالملف الأمني، والرقابة على المخصصات الضخمة للجيش والشرطة، لمنع الهدر والفساد الذي ارتبط بهاتين المؤسستين.
من جانبه، يرى أستاذ الفكر السياسي بجامعة القاهرة، الدكتور عمرو حمزاوي، أنه رغم أن الدولة الحديثة لا تقوم على العشائرية والقبلية، فإن معالجة الخروقات الأمنية في ليبيا في الوقت الحالي لا يمكن أن يتحقق دون إشراك القبائل في ممارسة ضغوط اجتماعية على غير الممتثلين للسياسات والخطط الأمنية، وتوفير الدعم لرجال الشرطة ومن تسند إليهم مهام حفظ الأمن من خلال ميثاق يهدر حقوق من يتورط في الإخلال بالأمن، ويوفر الحماية الاجتماعية لعناصر الشرطة.
ويشدد حمزاوي على أن الوفاق الوطني حول سياسات احتواء الاختلالات الأمنية وبناء الجيش والشرطة يمثل المدخل لتصحيح الاختلالات الأمنية التي تعاني منها ليبيا حاليا، مع ضرورة تعزيز الرقابة الرسمية من مجلس النواب والقضاء وديوان المحاسبة، وتفعيل الرقابة الشعبية بقيادة منظمات المجتمع المدني، لمحاسبة المقصرين من التنفيذين المعنيين بالملف الأمني، والرقابة على المخصصات الضخمة للجيش والشرطة، لمنع الهدر والفساد.
أما المسار الثاني من وجهة نظر الخبراء الأمنيين، فيكمن في طلب مساعدة المجتمع الدولي التدخل لمساعدة الدولة الليبية في مواجهة التنظيمات الإرهابية وبناء أجهز أمنية قوية، وتدريب القوات الليبية، وهو ما بدأت الحكومة في السعي إليه من خلال الزيارات التي يقوم بها المسئولون الليبيون لدول الجوار.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير الاستراتيجي، اللواء محمود زاهر، إن مساعدة الشركاء الدوليين لليبيا يجب أن تركز على تدريب الجيش ورفع كفاءته، وتدريب أفراد الشرطة، مشيرا إلى أن آخر زيارة لرئيس الوزراء الليبي، عبدالله الثني، لمصر ركزت على طلب المساعدة الأمنية في دحر الإرهاب، فضلا عن زيارة وفد وزاري ليبي برئاسة وزير الخارجية، محمد الدايري، ورئيس الأركان العامة، عبدالرزاق الناظوري لباريس لبحث التعاون العسكري والأمني ومكافحة الهجرة السرية من شواطئ ليبيا، كذلك بحث التوقيع على الاتفاقية العسكرية، التي تنص على أن تزود فرنسا الجيش الليبي بالسلاح مقابل امتيازات نفطية.
من جهته، طالب الخبير الأمني، اللواء محمد نور الدين، ببناء استراتيجية أمنية متكاملة يعتمد في تنفيذها على آليات واضحة ودعم كامل من قبل الحكومة الليبية، ومساندة من الرأي العام لرصد الواقع الأمني بشكل علمي دقيق، خصوصا أن أعداد المجموعات والكتائب المسلحة لا تزال غير معلومة، ولا توجد معلومات عن العديد من مقارها والمنتسبين إليها ووسائل تمويلها وعلاقاتها الأفقية والرأسية، واستمرار الجهل بهذه المعلومات قد يضعف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات ناجعة لضبط الأمن وحفظ النظام العام.
وشدد نور الدين على ضرورة إعادة فرز الكتائب المنضمة إلى الجيش والشرطة، وإعادة ترتيب أوضاعها مع التركيز على تصحيح ولاءاتها ومصادر توجيهها، وإلزامها بمهام الجهاز الذي انضمت إليه بما في ذلك إعادة تمركزها، فضلا عن أهمية تكثيف الجهود لجمع الأسلحة من المدنيين لترسيخ فكرة أن الحكومة هي الطرف الوحيد المخول له احتكار القوة، خصوصا أن من الأسباب الرئيسية لانتشار السلاح عدم الثقة في الإجراءات الأمنية، وخوف المواطنين من تغول بعض مجموعات السطو المسلح.
وأشار الخبير الأمني إلى أهمية العمل على تحقيق التناغم بين القوات المسلحة والجهات المشرفة عليها كرئاسة الأركان وحرس الحدود من خلال إجراءات صارمة تصدر عن المؤتمر الوطني والحكومة بهذا الخصوص.