تحقيق| فاطمة.. حكاية على حافة الموت في مستشفيات الحكومة
كتبت- مها صلاح الدين:
ليلة منتظرة منذ 9 أشهر، في منزل صغير، ذي مدخل ضيق وسلالم مظلمة، بمنطقة القطاوي بالقرب من الطريق الدائري ببهتيم، كان ينتظر أن يضيئه الفرح مرة أخرى بعد ليلة زفاف فاطمة سيد ومحمد مصطفى، اللذين تزوجا في أوائل 2014، ووعدهما القدر بوليد منتظر على الفور.
صرخات فاطمة التي أضاءت بهتيم لتنذر بولادة مبكرة في 1 نوفمبر 2014، رغم أن موعد ولادتها كان في منتصف الشهر، جعل أختها وزوجها ينتظران قليلا قبل نقلها للمستشفى حتى يشتد عليها "الطلق" خوفا من أن تلد "قيصرية". في التاسعة صباح اليوم التالي، اختلف الأمر، فماء الوليد أومأ بالإنذار الأخير، ما جعل محمد يحمل زوجته إلى مستشفى بهتيم العام لكونها الأقرب، ليجد سيلا من اللعن والسباب ينتظره من الطبيب المستقبل.
وتبدأ فاطمة في سرد تفاصيل قصتها مع المستشفيات الحكومية، بعد أن استندت على وسائد السرير التي أعدته بعناية لاستقبال وليدها في الغرفة البنفسجية، منتفخة الوجه والجسد تتذكر ليلتها الحالكة، بعد وصولها إلى مستشفى بهتيم، التي بدأت بفحصها من قبل طبيبتي نساء وتوليد، وسونار لقياس مدى فتح الرحم، وكانت النتيجة هي وجوب الولادة القيصرية.
مستشفى بهتيم
"مضوا جوزي على إقرار إن أنا جاية ليهم والدة قبل ما يدخلوني العمليات، علشان يخلوا مسؤوليتهم"، قالتها السيدة العشرينية، التي تبدلت هيئتها بجلباب أحمر ورأس معصوب، لتتفاجأ بعد أن تعرف عمرها أنها ليست سيدة في الأربعين، واستأنفت قائلة: "في غرفة العمليات كان 2 دكاترة وواحدة امتياز، وعمال النضافة في المستشفى كانوا حاضرين العملية".
لم تبال فاطمة ما رأته في العمليات من إهمال، إلا أنها طلبت من الطبيب أن يحقنها بمخدر كلي حتى لا تشعر بشيء، إلا أنها أردفت بأسى، قائلة: "بس أنا فوقت في نص العملية، وهما كانوا لسة مقفلوش الجرح، وسمعت كلامهم، كانو ولدوني وبيحاولوا يسيطروا على اللي هما عملوه".
"دي بتموت مني.. أنا عايز أكياس دم".. كانت تلك أولى الكلمات التي سمعتها فاطمة من الدكتور، مصطفى كامل، أثناء العملية، ليجيبوه عمال النظافة: "إحنا هنقول لجوزها يروح يجيب من معهد ناصر"، ليتابع الطبيب: "مش هتستنى لما ييجي الدم"، ما جعل أهلها يتبرعون بأربع أكياس دم، ويدفعون 250 جنيها نظير الكيس الواحد من دمائهم، بحسب رواية فاطمة.
فتحت فاطمة عينيها على مشهد ابنها الموضوع أعلى "ترولي حديد"، تجاوره إحدى عاملات النظافة، تنهره ليكف عن البكاء، الذي قطعه الطبيب، متسائلا: "إنتي قادرة تتنفسي؟"، إلا أن الألم الذي أصاب فاطمة في البطن والصدر منعها من الإجابة، لترد بنظرة مقهورة "رجلي اليمين مش حاسة بيها وكأني مشلولة"، كان هو الشعور الوحيد الذي انتاب فاطمة آن ذاك، على حد قولها.
وحينما استردت فاطمة كامل وعيها لم تجد سوى عمال النظافة حولها في غرفة العمليات، ودخل عليها أفراد العائلة واحدا تلو الآخر باكين، وكأنهم يلقون نظرتهم الأخيرة، لتتابع بصوت واهن: "كانوا بيصبروني شكلك بس منفوخ من البينج".
الإسعاف
3 حالات ولادة، دخلت بعد فاطمة إلى غرفة العمليات وخرجن، وفاطمة مازالت بالداخل، وهو ما جعل القلق يساور أفراد عائلتها، والذين لا يدرون ما الذي يجري بالداخل، ليتفاجئون فيما بعد بسيارة إسعاف تنقل فاطمة إلى مستشفى الدمرداش بحجة وجود أجهزة متطورة لإجراء أشعة لازمة، لتتابع فاطمة بعصبية: "لا عرفوا إنه عندي نزيف، ولا عرفوا إنهم قطعولي شريان رجلي اليمين".
انتقلت فاطمة إلى سيارة الإسعاف، وهي مقتنعة أنها ستفارق الحياة، ما دفعها أن توصي زوجها على ابنها التي لم تتحقق من ملامحه، حتى وصلت إلى مستشفى الدمرداش، وتم فحصها من قبل أطبائها، ليتنهي بها الأمر إلى غرفة العمليات للمرة الثانية، وتوسلت قائلة: "والنبي مش عايزة أسمع حاجة إنتوا بتقولوها، أنا سمعت كل حاجة هناك".
مستشفى الدمرداش
12 ساعة قضتها فاطمة في غرفة العمليات، وخرجت وهي مازالت لا تشعر بقدمها اليمنى، ما جعل أطباء العناية المركزة يلومونها على اختيارها مستشفى بهتيم لعملية الولادة، ويؤكدون "إنتي كان عندك نزيف وارتخاء في الرحم، وشريان رجلك اليمين كان مقطوع واتربط لما معرفوش يوقفوا النزيف، والدم اتقطع عن رجلك 5 ساعات وسبب جلطة".
أما عن كواليس العملية، فتقول فاطمة إن أطباء الدمرداش قاموا بإخطار أهلها أن هناك احتمالية لاستئصال الرحم وبتر الرجل اليمنى حتى يتمكنوا من إنقاذ حياتها، وهو ما جعل زوجها يوقع إقرار بالموافقة على إجراء العملية.
كانت العملية عبارة عن استئصال جزء من الشريان المماثل من الساق اليسرى، لفك العقدة وترقيع الشريان المقطوع بالقدم اليمنى، إلا أنه على مدار 3 أيام في الرعاية المركزة بعد العملية، ظلت فاطمة لا تتأثر بأي أجهزة من شأنها أن تشير إلى أنها ستشعر بقدمها مرة أخرى، وهو ما كان سيدفع الأطباء لإجراء عملية جراحية أخرى، إلا أن أحدهم اعترض، وأمر بإعطائها عقاقير لسيولة الدم، وعدم دخولها للمرة الثالثة إلى حجرة العمليات في يوم واحد.
العناية المركزة
انتقلت فاطمة إلى العناية المركزة بقسم الأوعية الدموية بعد 3 أيام من وجودها بقسم النساء والتوليد، وظلت هناك حتى 21 نوفمبر 2014، لتواجه مشاكل صحية جديدة، بسبب أن الجرح الناتج عن عملية الولادة كان ممتلئ بالصديد الذي سبب قصورا بوظائف الكلى، حتى اكتشف الأطباء ذالك وفتحوا الجرح كي لا تصاب بفشل كلوي، إضافة إلى نوبات التشنج، والغيبوبات المتتالية، والآلام التي كانت لا تتخلص منها إلا بمسكنات تفقدها الوعي.
"مخنوقة.. تعبانة.. مكسورة.. مفرحتش".. عبارات متقطعة انطلقت من فاطمة، يصاحبها دموع تعبر عن الأضرار النفسية التي أصابتها، أولها حرمانها من رؤية وليدها إلا قليلا، كالغريب، وعدم التمكن من إرضاعه بسبب العقاقير التي قد تضره، وكلمات الأطباء في "الدمرداش" التي كانت تتلخص في "إحمدي ربنا إنك لسة عايشة"، على حد روايتها.
تقرير بالحالة
ورغم كل ذلك، خرج تقرير "الدمرداش" محايدا ولا يدين أحدا بمستشفى بهتيم، غير أن طبيب هذه المستشفى استدعى الإسعاف، حينما فشل في إنقاذها، وهو ما اعترضت عليه فاطمة بحزم: "أنا عايزة حقي".
قررت فاطمة أن تعطي وثيقة مستشفى الدمرداش لـ"دوت مصر"، والتي يوجد بها تفاصيل العملية لإثبات حقها، ورغم أن مستشفى بهتيم جعلت زوجها يوقع على إقرار أنها دخلت "والدة"، إلا أنهم منحوهما تذكرة تثبت واقعة الولادة بالمستشفى، ولكن بتحريف اسم الأم.
وأوضح الزوج محمد مصطفى لـ"دوت مصر"، أنه بعد مكوث فاطمة بغرفة العمليات في مستشفى بهتيم 3 ساعات، خرج الطبيب يطالبنا بالتبرع بالدم، مستنكرا بقوله: "دفعنا على كل كيس اتبرعنا بيه 250 جنيها لطبيب استدعوه من الخارج"، وبعد أن انتقلت إلى مستشفى الدمرداش كان يتابعها 5 استشاريين، إلا أن كل طبيب فيهم كان برأي، وكنت عايز أخدها لوزير الصحة وأقوله عالجهالي".
عاملة نضافة
اتشحت الأخت الكبرى لفاطمة بالسواد، والتي عايشت آلام شقيقتها لحظة بلحظة، وأعربت بتماسك عن صعوبة المشهد التي رأت فيه أختها تذبل كل دقيقة، إلا إنها تذكرت عاملة مستشفى بهتيم التي حرصت على الاتصال بها يوميا لتعرف آخر تطورات الحالة، متشككة في كونها محرضة من قبل الطبيب خوفا من الإضرار به.
عاملة النظافة: بصراحة كانت ملطشة مع فاطمة والحمد لله إنها لسة عايشة
سجل "دوت مصر" مكالمة هاتفية بين أخت فاطمة وعاملة النظافة، أم أسامة، تحارب فيها لتبرئة الطبيب، مؤكدة أن فاطمة دخلت العملية تنزف، وغيرت كلامها بعد ذلك لتؤكد أنها لم تكن موجودة بغرفة العمليات إلا بعد أن وضعت فاطمة.
بعد ضغط من الأخت الكبرى اعترفت أم أسامة قائلة: "الدنيا كانت ملطشة مع فاطمة، والحمد لله إنها لسة عايشة"، كما أنها أعلنت استغرابها من فكرة تقاضي المستشفى مقابل لأكياس الدم التي تبرع بها أهل المريضة، مختتمة مكالمتها بـ"إوعي تفتكري إني بتصل أنقل الأخبار ولا أسوس".
اعتراف من داخل "عمليات بهتيم"
د.جرجس حلمي: الطبيب اختلط عليه الأمر بين شريان الرحم وشريان الرجل فقام بقطعه
وفي مكالمة هاتفية مسجلة، أكد خلالها الطبيب جرجس حلمي، الذي رافق الدكتور مصطفى كمال، في العملية، لعصام زوج أخت فاطمة، أنه لم يكن هناك نزيفا في الرحم لدى فاطمة قبل الولادة، بينما بعد الولادة لم يعود الرحم إلى حجمه الأصلي، وهو ما سبب النزيف، وأن الدكتور مصطفى اختلط عليه الأمر بين شريان الرحم وشريان الرجل، فقام بقطعه، ومن ثم قام بربط الشريانين، واستدعى الإسعاف من مستشفى الدمرداش لإنقاذها، بعد أن أكد أيضا خلال المكالمة الهاتفية واقعة أكياس الدم.
وهو ما أكده الدكتور عمرو غريب، أحد الاستشاريين المتابعين لحالة فاطمة بـ"الدمرداش"، لـ"دوت مصر"، على استحياء بقوله: "فاطمة جاءت إلى المستشفى بعد حالة ولادة متعسرة، مصابة بنزيف حاد في الرحم، وشرايين متربطة، حيث ربط طبيب بهتيم الشريان الموازي للرحم، فقطع الشريان الموازي للرجل اليمنى وقام بربطه، ما سبب قصور في الدورة الدموية".
وزارة الصحة
وحينما سألنا الدكتور غريب، إذا كان هذا يستدعي كتابة زوجها إقرارا بالموافقة على قطع الرجل اليمنى واستئصال الرحم، فأجاب بعصبية: "أي حد داخل عملية بيكتب إقرار، إذا كانت هي حابة تدين حد، تأخد تقرير، وتثبت أن الأخطاء الطبية وقعت بمستشفى بهتيم، ترفع دعوة قضائية، ولكن تلك ليست مهمتنا بمستشفى الدمرداش".
وفي المقابل واجه "دوت مصر" المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، حسام عبدالغفار، بحالة فاطمة التي لم تستقر بعد، حيث إن احتمالية بتر قدمها اليمنى مازالت قائمة، بسبب احتمال فشل عملية ترقيع الشريان، كما قدمنا إليه جميع المستندات والتسجيلات التي تثبت الواقعة، ووعدنا بالبت فيها من قبل الجهاز المعني بوزارة الصحة والرد علينا بالإجراء الذي ستتخذه الوزارة خلال الساعات القليلة المقبلة.