التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 05:26 ص , بتوقيت القاهرة

رحلة البردى في "قراموص" من الفلاح إلى السياح

رحلة البردى في "قراموص" من الفلاح إلى السياح
رحلة البردى في "قراموص" من الفلاح إلى السياح

على بعد مئات الكيلوات من قلب القاهرة يأخذك طريق منشية العباسية الممتد من مدينة الانتصارات العاشر من رمضان مرورا بمنشية السماعنة، والجمايلة، وبنى أيوب، والشيخ بن جبيل، وتل مفتاح، وصولا لكوبرى المانسترلى ثم قرية الرحمانية ستجد كوبرى بوابات النيل كما يسموه أهالى قرية القراموص، أو كما ينطقوها " الجراموس" مركز أبو كبير بمحافظة الشرقية.

خلال هذه الطريق يمين فرع نهر النيل تخبرك الزراعات الممتدة عن محصول لا يعرف شكله الكثيرون، إنه نبات البردى، هذه العيدان الخضراء التى تأخذ شكل القوس يعلوها هالة دائرية من الفروع الممشوقة بشكل دائرى، تراها متراصة فى الأرض الزراعية بشكل مكثف، وستفاجأ حين تعرف أن عمرها يمتدد لخمس وعشر سنوات، رغم أن المحصول يمكنك حصاده بعد شهر من زراعته وتظل تحصد منه على مدار 6 أشهر بداية من مارس حتى نوفمبر.

لكن بين هذه المساحات المزروعة والتى يخبرك لون محصولها عن طول فترة زراعتها ستجد فى المقابل عمال تحمل منجلة بين يديها تغوص داخل الأرض " تقرط" عيدان خضراء بشكل منتظم وبعد أن يقرطون الجذع يطيرون هامته ليحتفظوا فقط بالعيدان مستقله.

هذا النبات الذى ارتبط بشكل كبير بالحضارة المصرية القديمة، استعاد رونقه من جديد حين قرر أحد أبناء قرية "قراموص" أن يجلب شتلات من نبات البردى ليزرعها أمام منزله، وبين ليلة وضحاها تحولت تلك القرية لإحدى قلاع زراعة وصناعة ورق البردى.

 

الحكاية بدأت من أكثر من 45 عاما حين قرر الدكتور أنس مصطفى أستاذ الفنون الجميلة أن يجلب شتلات من نبات البردى وقام بزراعتها أمام منزله، وعند الحصاد فوجئ أن أهالى قريته اشتروها، وقرروا بعدها تقليده ليكونوا جميعا حراس الحضارة وامتدادًا لها فى زراعة نبات البردى.

 

لم تتوقف الحكاية عند أستاذ الفنون الجميلة وبعض جيرانه لكن القرية عن بكرة أبيها قررت أن تتبنى هذا المشروع الجماعى وفى تلك اللحظة دعا الدكتور أنس مجموعة من الفنانين التشكيليين من أوروبا لزيارة القرية وجمع الأهالى وعلمهم زراعة وتصنيع ورق البردى والرسم عليه واختيار الألوان، ليصبح الدكتور أنس مؤسس مشروع زراعة وانتاج وصناعة ورق البردى، لتتحول القرية بالكامل لأول قرية مصرية حديثة تزرع روح التاريخ وتسطره بطريقة فطرية يتجدد معها عبق التاريخ.

 

من داخل أحد الأراضى المزروعة بالبردى وقف محمد سعيد يحكى حكايته مع البردى الذى فتح بيته وتزوج منه ومازال يعمل فيه هو وزوجته وابناؤه فكم ساهمت هذه الزراعة فى تجهيز وتزويج كثير من فتيات القرية.

 

اصطحبنا محمد إلى منزله الذى اتخذ من سطحه مكانا مفروش بعيدان البردى ويقوم بتنشير كارتون البردى عليه ليجف، ومن الدور الأول له اقتطع حجرة كبيرة واتخذها مكانا لتصنيع ورق البردى، لمبة كهربائية واحدة لإنارة المكان، وفى المقابل تحول مدود الحمار الذى يوضع فيه العليق إلى أحواض متراصة يستخدمونها فى الصباغة، يغمسوا فيها أوراق البردى بعد تقشيرها وتقطيعها.

 

تشريح أعواد البردى، تعد المرحلة الأولى فى التصنيع، وهنا تجد إحدى النساء أو الأطفال تقوم بتثبيت طرف من الخيط البلاستيك الحاد فى أحد جدران المنزل وتحكم قبضتها على عود البردى وتقسمه إلى شرائح متساوية لا يختلف سمك إحداها عن الأخرى، وبالقرب من هذا المكان تسمع ضحكات وحكايات النساء والفتيات عن ذكرياتهم مع بداية زراعة البردى فى بلدتهم وكيف كانوا يظلون طوال اليوم يعملون دون توقف.

 

بجوار أحواض " المدودة" التى وضع فيها الكلور والبطاس كانت براميل المياة العذبة التى ينقل اليها الشرائح بعض الحصول على درجة اللون لورقة البردى، من خلال وضعها لفترة معينة داخل براميل ضخمة من المياه مضافا إليها "الكلور" وهى مادة كيميائية.

 

وشرحت "هانم" إحدى النساء العاملات فى البردى مراحل العمل قائلة: "نستخرج قلب عود البردى وهى القشرة البيضاء، والشريحة لها سُمك معين فى حالة زيادته عن المطلوب تتلف الورقة، لذلك فإن الفتيات ممن يشتغلن فى تشريح الأعواد على دراية كاملة بالسُمك المطلوب، والبردى به نسبة من الحديد مما يعرضه لتغير لونه بفعل عملية الأكسدة التى تحدث عند تعرضه للهواء، لذلك نضع شرائحه لمدة 7 ساعات فى أحواض يضاف لها مادة الكلور، ويتم تنظيفها جيدا ونكسبها اللون الأبيض أو الأصفر الذى يجعلها تبدو وكأنها قديمة.

 

وهذه المرحلة تسمى بالكلورة، وتعتبر هذه المرحلة من المرحل الهامة فى تصنيع البردى، وتتم بحرص شديد ومعايير محددة لأن زيادة الكلور تفسد البردى بعد فترة، بسبب تسرب المواد الكيميائية إلى داخل ألياف النبات قتؤدى إلى تلفها.

 

أما مرحلة "رص" الشرائح المخمرة من نبات البردى، وهى المرحلة التى تتطلب حرفية وخبرة كبيرة، لأنه لابد من وضع الشرائح بترتيب متناسق بالطول والعرض، لتغطية أحرف الورقة بشكل متعامد، منعاً لوجود أى فراغات تتلف الورقة وبينها قطع قماش وكرتون لامتصاص المياه وتجفيفها ومنعاً لالتصاق الورق، ثم يتم وضعها أسفل مكبس حديدى لضغطها على شكل ألواح من الورق، لتفريغ الهواء كليا من شرائح البردى ليتماسك وتخرج فى صورتها النهائية دون تقوّس، وتكون جاهزة للرسم والطباعة عليها.

 

سعيد طرخان، أحد مصنعى ورق البردى، وهو أحد أبناء القرية الذى وقف منذ اللحظات الأولى تستعيد ذاكرته سنوات مضت لتلك المساحات الزراعية التى كان يكسوها نبات البردى، وتتقلص المساحات المزروعة من ورق البردى، لتنخفض المساحة من 500 فدان إلى 100 فقط، بعد الأزمات التى مرت بها السياحة خلال السنوات الماضية وعزوف عدد كبير من الأهالى عن العمل".

 

وبدأ سعيد يشرح بفهم ووعى عالم البردى: " أعواد البردى مثل أعواد القصب يصل طولها إلى 3 أمتار، ويرتبط الطول بالمقاس المطلوب، فعلى سبيل المثال إذا كان الطول المطلوب 70 سنتيمترا نقطع مترا كاملا من العود، وفى مرحلة التشريح كان القدماء المصريون يستخدمون آلة حادة أشبه بالسكين فى إزالة القشرة الخضراء من العود إلا أننا نستخدم الخيط بدلاً منها، وكان الفراعنة يلجأون إلى تخمير الورق لأيام طويلة حتى يصبح الورق مرناً وهشاً، إلا أننا استعنا بالمواد الكيماوية التى ساعدتنا فى التحكم فى مرونة ودرجة لون الورق خلال ساعات قصيرة، وكان الفراعنة يستخدمون الصخور لقوتهم الجسمانية بديلا عن المكبس اليدوى الذى نستخدمه الآن.

 

وأكمل طرخان الذى حملت لوحاته على البردى توقيعه أن قرية قراموص يقطنها ما يقرب من 30 ألف مواطن تخدم على 12 عزبة يسكنها أكثر من 750 الف نسمة ، وهناك 62 منظرا فرعونيا معتمدة لدى الرسامين، وأكثرها جذبا اللوحات الجدارية الفرعونية المشهورة، وأغلبيتها نماذج مأخوذة من الرسومات الفرعونية الموجودة فى المعابد وعلى أوراق البردى القديمة.

 

ويروى طرخان تفاصيل بعثة برنامج الامم المتحدة لتمكين المرأة والصندوق الاجتماعى للتنمية الذى منحهم قرضا بقيمة 170 الف جنية على هيئة معدات وأجهزه ، وعلم 80 سيدة وفتاة من ابناء القرية لتطوير صناعة البردى وانتاج أشكال غير تقليديه منه منها علب المجوهرات والحقائب المزخرفة والصوانى والطاولة والقبعات والحقائب".

 

كل هذه الحكايات أصبحت مجرد ذكريات لأهالى القرية الذين جددوا الامل بعد زيارة من وزارة الأثار لهم خلال الأشهر الماضية ومعهم لجنة من منظمة اليونسكو لدعم القرية وتحويلها لإحدى قرى الصون العاجل ، واتاحة فرص للتطوير للحفاظ على احدى القرى ذات الزراعة النادرة والصناعة المميزة ، وضرورة تسويق منتجاتهم فى المعارض الدولية والأسواق الداخلية، فصانع البردى مزارع بسيط لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه بهر العالم فى رسمه رموز الفراعنة واللغة الهيروغليفية التى أتقنها بالممارسة.