"يوما أو بعض يوم" لمحمد سلماوي..وحكاياته الصادقة بين السطور
كيف يمكنك أن تكتب عن حياة عريضة..؟ كيف يمكنك أن تلم تفاصيل هذه الحياة الكبيرة التي تلتهمك التهاما حينما تقرأ فصولها في كتاب؟ وكيف تقاوم هذه الحياة، حينما تقارنها بحياتك، فتشعر أنه فاتك الكثير..وكيف تنقذ نفسك من الإحساس المستقبلي بالحسرة، إذا التفت إلى ما عشت من سنين، فتجد أنها خلت من أيام ذهبية، مثل تلك التي عاشها آخرون؟
يعيش الكاتب، ويحكي الحكايات، يكتب الأعمال الروائية عن الآخرين، أو يبدع أعمالا مسرحية، وربما يكون أجمل ما سيكتبه، هو حياته نفسها، وصخب فصولها، هذه هي أبرز الأفكار التي راودتني بينما أقرأ كتاب "يوما أو بعض يوم" للكاتب الكبير محمد سلماوي، الصادر حديثا عن دار الكرمة، في القاهرة، والذي ينتمي إلى صنف السيرة الذاتية، أو المذكرات.
تبدأ مذكرات محمد سلماوي "يوما أو بعض يوم" بفصول عن نشأته في قرية محلة مالك مركز دسوق محافظة كفر الشيخ، هنا في هذا الفصل المهم الذي يبدأ به مؤلف الكتاب سيرته، نذهب إلى رحلة عميقة في قرية من قرى الدلتا، رحلة ليست عادية، لأن سلماوي يزودنا فيها بخرائط وتفاصيل تاريخية تعود للقرن الثامن عشر، يتخذ الكتاب منذ سطوره الأولى قوته وجاذبيته، وسحره، يعرف محمد سلماوي قارئه على جده بقوله: كان محمد السلماوي بك هو عمدة محلة مالك، وكان يسكن بيت العائلة القديم، الذي ورثه عن أجداده، والذي كان يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، بأعمدته الشاهقة كما بدت لي وقتها.
يصف سلماوي البيت، وتفاصيله من الداخل، قاعته الرئيسية الفسيحة، تتحول السطور إلى كاميرا تصحب القارئ في رحلة فيلمية قصيرة، كما يحدثنا عن دخول القرية أهم خرائط الدلتا المصرية تلك التي يضعها على حائط بمنزله، وعثر عليها بإحدى أسواق الأنتيكات بباريس، رسمها الرحالة الفرنسي بول لوقا، أثناء رحلته إلى مصر.
أسلوب مؤلف الكتاب يميل في هذه الفصول الاستهلالية إلى المشهدي أكثر، مما يجعلك تنخرط بسهولة في القراءة، يخطف محمد سلماوي قارئه – وكيف لا- بمصطلحات من قبيل "التراسينا" و" السلماوي بك" و"شجرة العيلة"، إنها "النوستالجيا" لزمن آخر لا تعرفه أجيال عديدة، كما يضمن هذا الفصل معلومات مهمة عن تجمعات المصريين وانتشارهم في شبه الجزيرة العربية، وشمال إفريقيا، كذلك يخطف مؤلف الكتاب قارئه بحكايات عن زيارات جده إلى أبيه التي كانت مناسبات احتفالية ويحدثنا عن الخير الذي كان يجلبه هذا الجد إلى بيت الأب في القاهرة، ومنها أصناف الأكل التي لم تعرفها أسرة سلماوي في القاهرة، مثل برام الأرز المحشو بالحمام الذي تشتهر به دسوق، وأصناف الكفتة الكبيرة المصنوعة من اللحم المفروم التي تسمى "كبابي".
استهلال الكتاب بحكايات عن الجد "محمد السلماوي" لم يتضمن فقط تلك الإشارات التي تثير في قلب القارئ حنين إلى الماضي، أو تزوده بمعلومات عن هذا الماضي المهجور، بل يتضمن أيضا حسا إنسانيا ودفقا شعوريا جميل، ومن ذلك الإشارات التي يحكيها سلماوي عن جده: كان جدي يحمل دائما في جيبه حبوب النعناع البيضاء التي كان كلما جاء لزيارتنا يعطينا منها، كل واحد قرصا، لكني كنت أجدها حامية المذاق، فأذهب إلى الحمام لألقي بها إلى حيث لا يستطيع أن يجدها.
من منا لم يلق بحباية النعناع في الحمام بعدما أجبره أحدهم على ابتلاعها..؟
الأب المتسلط..المشاعر المتناقضة تجاهه..قصة أول تجربة جنسية
من أهم فصول الكتاب ذلك الذي يحكي فيه سلماوي بكل أريحية عن عطيات، بطلة مراهقته، وعن رغبته في التمرد على عزلته، وثورته على الشرنقة التي غزلتها حوله والدته، يحكي سلماوي عن الغسالة التي مارس معها الجنس في عمارة وديع سعد بالزمالك، كان يذهب للمذاكرة مع أحد أصدقاء المدرسة، وفي إحدى المرات عرض عليه أن يمارس الجنس مع "عطيات" البدينة المائلة للسمار، يحكي سلماوي في شجاعة، تحسب لكاتب مصري، وما المذكرات إلا مفاجأت، وكشف، ومصارحة بما عاشه، هنا في بضعة سطور، يكتب سلماوي عن "عطيات" التي انفرد بها وصديقه في حجرة الغسيل ببدروم العمارة، لا تجد أي مفردات كاشفة، على الرغم من حسية المشهد الذي يصفه، يعرج منه إلى تفتح مواهبه الأدبية، وتعرفه على إحسان عبد القدوس، كما يحكي سلماوي عن والده، الذي شعر تجاهه بمشاعر متناقضة، كان يكره فيه تسلطه، وما كان يشعر أنه ظلم لأمه، لكنه كان معجب بقوته ونجاحه في عمله، يروي سلماوي عن والده أنه حين تقدم لخطبة كبرى كريمات محمد شتا بك، كان أبوه مهندسا زراعيا يعمل بمكتب وزير الزراعة، لكنه لم يمل للزراعة، فكان دائم التأخر عن العمل، وفي إحدى المرات استدعاه الوزير، مصطفى نصرت بك، وعنفه بشدة على تأخره المستمر، مذكرا إياه بأن الوزارة دي مش عزبة أبوك، وهو ما أغضب والده فرد عليه فورا: ولا هي عزبة أبو معاليك.
كان جد سلماوي صديقا للوزير، فشعر بالحرج بعدما رد ولده على صديقه، وهو ما أنهى علاقة والد سلماوي بالوظيفة الحكومية، وجعله يتجه للأعمال الحرة، فعمل مع شتا في التجارة حتى وفاة الأخير.
يحكي سلماوي أيضا عن سيارة والده المفضلة "الكاديلاك البيضاء" يا لسحر كلمة "كاديلاك" ووقعها في الآذان الآن، خاصة حينما نعرف أنه كان يقودها السائق الأسمر الطيب، الأسطى محمد، هكذا تكتمل صورة "النوستالجيا" الكاملة.
العلاقة بين "سلماوي" الأب، و"سلماوي" الابن من النقاط القوية التي يتحدث عنها الأخير ببساطة تفجر داخلنا أسئلة عديدة، ومنها ذلك الجزء الذي يحكي فيه سلماوي عن تغير والده بعد رحيل عبد الناصر، وانتقاده لعهده، خاصة هجومه على الممارسات الناصرية ومنها تأميم الأعمال التجارية، يقول سلماوي: وجدته يقول إن الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر في ظل الإدارة الحكومية، وفي إحدى المرات سألته إذا كان هذا هو رأيه، فلماذا كانت محاولته إقناعنا يوم تأميم شركاته بجدوى هذا التأميم؟
عندما وضع سلماوي الأهرام في الاختبار
يحكي مؤلف "يوما أو بعض يوم" عن طريقة التحاقه بالأهرام، في فصل عنونه "هيكل يخبرني أني سقطت في الاختبار"، حكاية شيقة عن الطلب الذي طلبه سلماوي من الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل حينما قابله للعمل في القسم الخارجي بالأهرام، وقتها طلب سلماوي أن يعمل لمدة شهر بدون أجر، حتى يستطيع أن يحكم على هذا العمل الذي كان جديد عليه تماما، وقتها دُهش هيكل وقال له في لهجة لا تخلو من سخرية: تريد أن تضع الأهرام موضع الاختبار..؟
انفتح عالم جديد أمام سلماوي بعمله في الأهرام، يحكي عن قضائه شهرين في الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة انتخاب سكرتير جديد للأمم المتحدة، يحكي أيضا عن انفراده بأول حوار صحفي مع "كورت فالدهايم" مندوب النمسا الدائم الذي اختير ليكون السكرتير العام الرابع للأمم المتحدة.
علاقة الحكيم بالسادات وعبد الناصر..حواديت الدور السادس
من بين أهم أجزاء الكتاب، الفصل المعنون "حواديت الدور السادس" فيه يكتب سلماوي الكثير بين سطور كتابه، وربما البعض بوسعه أن يستقبل ما يشاء من معان، وربما يتجاهل البعض السطور المخفية، التي تحوي حكايات صادقة ورسائل، مكتفيا بالسطور المكتوبة.
يحكي سلماوي في هذا الجزء معارك المثقفين مع السادات بعد رحيل عبد الناصر، وتعرضه للحبس بعد توقيعه على بيان توفيق الحكيم الداعي لإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب السائدة منذ رحيل عبد الناصر، وفتح المجال أمام حرية الرأي والتعبير والمناقشة، يحكي سلماوي عن ثورة السادات على المثقفين، ونجاة توفيق الحكيم من مصير الفصل الذي تعرض له سلماوي، وتحويله للعمل بجهة عمل غير صحفية، يحكي سلماوي عن الأذى الذي طال أكثر من مائة كاتب ممن وقعوا على البيان، كما يحكي أيضا نجاة توفيق الحكيم من التنكيل بالمثقفين بعدما أصدر كتابه الخلافي "عودة الوعي" الذي هاجم فيه نظام عبد الناصر بشدة، موضحا – أنه وغيره كان مغيبا عن الوعي طوال سنين حكمه وحتى هزيمة 1967
يقول سلماوي: فزالت عن الحكيم صفة "الخرف" التي وصمه بها السادات، وصار يحتل مكانة أثيرة عنده.
يحكي سلماوي أيضا عن يوسف إدريس قصة تحمل مفارقة، يقول سلماوي: لقد كان من أغرب ما فعل يوسف إدريس في حياته هو تلك الواقعة التي نُسيت، ولم تعد تذكر الآن في أي مرجع عن حياته، فبعد اغتيال السادات، وتولي مبارك: بدأ الرئيس الجديد يعلن عن توجهات سياسية جديدة، حيث أفرج عن المعتقلين السياسيين، وبدأ سياسة تقارب مع العرب، فما كان من يوسف إدريس بعد مشاهدته مساء أحد الأيام لنشرة الأخبار بالتلفزيون، إلا أن أخذ سيارته وتوجه مباشرة، وبلا موعد إلى رئاسة الجمهورية، حسبما روى هو نفسه لسلماوي، وعند وصوله قال للحرس على البوابة: أنا يوسف إدريس، أبلغوا الرئيس أنني موجود وأريد مقابلته.
حكايات ممتعة يتضمنها الكتاب، وسيرة غنية، وربما لا تكف قراءة واحدة لعرض أبرز ما تضمنته من فصول، تغطي أحداث سياسية مهمة، وأوضاع مصر الاجتماعية نهاية الستينات وبداية السبعينات، ونهاية تلك الحقبة، إنها سيرة آسرة نعجب حينما نقرأها، كيف أن ما تضمنته كان يوما أو بعض يوم، ولكنها مع ثرائها بالحكايات والقصص، تدلل على مكانة وقيمة أدب السيرة الذاتية، الذي لا يقبل عليه أدباء بشجاعة، وتوسع، مثلما فعل هنا صاحب "أجنحة الفراشة"، وتدلل أيضا على شوقنا لقراءة هذه السير ومعاناتنا من نقص مكتبتنا المصرية بأعمال جميلة مثلها.
اقرأ أيضا