التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:19 م , بتوقيت القاهرة

بمتصرفية لبنان .. السلطان عبدالمجيد الأول يحيي فكرة "الوطن القومي لليهود"

عبدالمجيد الأول
عبدالمجيد الأول
سلطت صحيفة "عثمانلي" التركية في تقرير لها الضور على فكرة الوطن القومي لليهود التي لم تكن حلما راود الطائفة المشتتة في بقاع الأرض دون مقدمات، الدولة العثمانية أحيتها بعد رقاد حتى صارت نبتة شيطانية يافعة، عندما رضخت في أوقات ضعفها للضغط الأوروبي وأسست متصرفية مسيحية في لبنان عام 1860.
 
اليهود حذوا حذو المسيحيين في لبنان، راقت لهم فكرة المتصرفية الدينية، وسرعان ما طالبوا بنموذج يحاكيها، ثم أعادوا بلورة فكرة "الوطن القومي لليهود"، وتهافت سلاطين آل عثمان على تقديم التسهيلات والإغراءات طمعا في أموال اليهود ومرابيهم.
 
اليهود لجأوا إلى أوروبا لمساعدتهم في تنفيذ الفكرة، وبخطوات بطيئة ومخططة تمكنوا من شراء الأراضي في فلسطين وإنشاء مستعمرات تحت سمع وبصر الأتراك، وتغاضى السلاطين، بل شجعوا في أوقات كثيرة، بناء المستوطنات اليهودية.
 
السلطنة انفصلت عن الواقع، لم تدرك التغييرات التي شهدتها العلاقة بين السلطة والمواطن، وظلت غارقة في سياسة القرون الوسطى القائمة على مفهوم القبيلة التي تستأثر بالحكم والثروة دون الآخرين.
 
عبدالمجيد الأول أعلن التنظيمات عام 1839، وساوت نظريا بين جميع الرعية، لكنها لم تكن سوى حبر على ورق، ولم تكن نابعة من إرادة حقيقية، بل كانت إملاء أوروبيا وشرطا أساسيا لنجدته من محمد علي باشا.
 
العثمانيون سرعان ما تنكروا للإملاء الأوروبي، استثنوا المسيحيين من الخدمة العسكرية مقابل غرامة مالية، واستمر التمييز على ما هو عليه، فلم تتطور فكرة المواطنة، وظلت السلطنة تنظر إلى شعوبها كرعايا.
 
التمييز العنصري غذى العداء والاضطهاد للأعراق والأديان الأخرى، وظهرت على السطح مظاهر العنف الديني والطائفي والعرقي، التي كانت لاحقا ذريعة أوروبا لاستعمار دول المنطقة العربية واستنزافها.
 
التحريض العثماني ضد مسيحيي لبنان عام 1860 مكن الدروز من شن هجمات ضدهم، وراح ضحية المؤامرة التركية الدرزية الآلاف فضلا عن تهجير مئات الآلاف، ولم تتوقف المذابح إلا بتهديد أوروبا.
 
الدول الغربية لوحت بالتدخل العسكري لنجدة مسيحيي لبنان، فأرسل السلطان جيشا بقيادة فؤاد باشا لضبط الأمن، بل وسمح بإنزال 10 آلاف جندي فرنسي في الشام، فكانت الخطوة الأولى على طريق الاستعمار.
 
السلطنة اتفقت مع باريس في اجتماع دولي على منح لبنان حكما ذاتيا، بتكوين متصرفية لها حاكم مسيحي عثماني غير تركي، يجري تعيينه بالاتفاق بين السلطان والدول الأوروبية، فسحبت باريس قواتها بعد تحقيق مأربها.
 
في كتابه "التيارات الفكرية السياسية في السلطنة العثمانية" يقول الباحث التونسي محمد النفزاوي: "سياسة السلطنة إزاء مسيحيي لبنان وجهت أنظار دعاة القومية اليهودية (الصهيونية) إلى التفكير في إنشاء وطن قومي في الشام".
 
القرن الـ19 شهد تطورا كبيرا في التأييد العثماني لمشروع إقامة دولة لليهود في فلسطين، كان السبب في ذلك تدهور الأوضاع الاقتصادية للدولة العثمانية، إلى جانب إغراقها في الديون، لتصبح البنوك الأوروبية هي المحرك الخفي.
 
أبرم رجل المال الإنجليزي اليهودي روتشيلد العديد من الصفقات الخبيثة مع سلاطين آل عثمان، شملت تقديم منح مالية وقروض لتركيا في مقابل منح المهاجرين أراضي للإقامة عليها في فلسطين والأردن.
 
عبدالمجيد الأول سمح بأول حالة استيطان لليهود في فلسطين والأردن عام 1855، وأقيم أول حي سكني يهودي في القدس تحت اسم "مشكانوت شعنانيم" بأموال الثري البريطاني موشي منتيفيوري، وتحت سمع وبصر الإدارة العثمانية.
 
السلطان منحهم امتيازات لتحفيز الهجرة واغتصاب الأراضي من يد أصحابها الفلسطينيين، وفي العام 1860 اشترى اليهود أول قطعة أرض قرب بحيرة طبرية بين منطقتي الجليل حاليا والجولان المحتلة، بنوا عليها 20 مسكنا للمهاجرين.
 
اتجهت أنظار دعاة القومية اليهودية (الصهيونية) إلى الشام لتأسيس وطنهم القومي، بسبب حالة الفوضى والطائفية التي نقلها آل عثمان إلى الشوام، وتبارى الكتاب والمفكرون اليهود في تأييد الفكرة وكأنها "حقا تاريخيا".
 
جوزيف سالفادور وموشي هيس وليون بينسكر وماكس نورداو وآحاد حاعام، جميعهم اتفقوا على توجيه قبلتهم باتجاه فلسطين، دعا هيس في كتابه "روما والقدس.. آخر مسألة في القومية" إلى "عودة اليهود إلى فلسطين.
 
الصهيوني هيس دعا اليهود إلى العمل في الزراعة لتطهير أنفسهم من الانغماس طوال قرون عديدة في الربا والمضاربات، ثم راح يدعو إلى تأسيس مجتمع يهودي في الشام المنقسم على نفسه عرقيا ودينيا وطائفيا.
 
في كتابه "الانعتاق الذاتي" لمس ليون بينسكر رضوخ العثمانيين لأوروبا، فدعا إلى الحصول على قطعة أرض تكون وطنا لملايين اليهود وأن يحصلوا على ضمانات من القوى الكبرى لضمان أمنهم في الوطن المنشود.
 
مقابل وعد من اليهود بتسديد ديونه لأوروبا، تبنى السلطان عبد المجيد الأول إقامة وطن قومي لليهود، وقدم وعودا صريحة لصديقه تيودور هرتزل بالعمل على إنشاء المستوطنات تحت رعايته شخصيا، حسب الباحثة الأردنية فدوى نصيرات.
قادة الصهيونية اجتمعوا في إسطنبول أثناء زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى القدس عام 1898، واتفقوا على المطالبة بالمنطقة الواقعة بين غزة والفرات كوطن لهم، على أن يتمتع الإقليم باستقلال ذاتي عن الدولة العثمانية.
 
عبدالحميد الثاني أدار ظهره لكل القيم الإسلامية، راح يتباحث مع القيصر الألماني حول المشروع اليهودي في مراسلات على مدار 8 سنوات، اعتمد فيها على أصدقائه من زعماء الطائفة اليهودية في تمويل خزانة الدولة الخاوية.
 
السلطان تفاوض مع صديقه هرتزل، مهندس مشروع الاستيطان الصهيوني، على بيع فلسطين، ودخل معه في مباحثات للمقايضة على الأرض والعرض مقابل الأموال، أما القيصر الألماني فقد استقبل أثناء زيارته للشرق هرتزل 3 مرات.
 
القيصر طمأن الصهيوني على مشروعه، واطلعه على تفاصيل مباحثاته مع عبدالحميد، قائلا :"لقد أثارت فكرة الوطن القومي لليهود اهتمامي، ولامست تعاطفي، حتى أوصلتني إلى اقتناع بأننا هنا مع مسألة ذات أهمية كبيرة جدا".
 
دائرة معارف الإمبراطورية العثمانية ذكرت أنه مع بداية الحرب العالمية الأولى قامت السلطات العثمانية بتقديم وعد لألمانيا القيصرية بإنشاء دولة يهودية في حال تحقيق النصر على الحلفاء.
 
ألمانيا كانت تقود تحالفا مع إمبراطورية النمسا والمجر والدولة العثمانية في مواجهة بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا القيصرية، وجدت الحركة الصهيونية فرصتها في هذه الحرب، فبدأت اللعب على الطرفين.
 
انقضت السنوات الثلاث الأولى من الحرب وبدأت الحركة الصهيونية تقطف أولى ثمار نشاطها، حصلت من الحكومة البريطانية على وعد بلفور عام 1917، ونص صراحة على اعتراف لندن بـ"حق اليهود في فلسطين".
 
حاكم القدس العثماني عزت بك خط وثيقة تعهد من السلطنة بتسليم المدينة إلى القوات البريطانية وفق ما تضمنه وعد بلفور ديسمبر 1917، ولم تقف الخيانة التركية عند هذا الحد.
 
وثائق أخرى تشير إلى أن أنقرة دعمت العصابات اليهودية في فلسطين، وأمدتهم بأسلحة وذخائر خلال حرب 1948 ضد الجيوش العربية، وفي يوليو 1950 تبادلت أنقرة مع تل أبيب السفراء بعدما استتبت الأمور للمغتصبين.
 
تركيا عينت سيف الدين إسين أول سفير لها في إسرائيل، وفي معظم المحطات التاريخية انحازت أنقرة لصف تل أبيب في مواجهة العرب، ومواقف رجب إردوغان القائمة على التطبيع الكامل لم تكن إلا صفحة في تاريخ طويل من الارتماء في أحضان الصهاينة.