التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 06:30 م , بتوقيت القاهرة

«رجاء».. زوجة الأب التي أبكت القاضي

بمحض إرادتها، اختارت أن تتزوج من رجل فقد زوجته، وله من الأبناء خمسة، ثلاثة ذكور وطفلتان، أكبرهم كان في الصف السادس الابتدائي، وأصغرهم لم يسعفه القدر أن يستمتع بحضن أمه بعد عامين من فطامه.
 
رجاء.. هذا هو اسمها الحقيقي.. وربما تقاطعت أيضًا مع «رجاء» الأب الذي كان يبحث عن «أم بديلة» لأبنائه، لا «زوجة أب»، بمفهومها السيء.
 
معارضة «الزواج» كانت من طرفي أهل «الزوج» سليل العائلة المشهورة، وأهل الفتاة التي كانت تضع أولى أقدامها على سنواتها العشرين.. فأصحاب الاعتراض الأول كانوا يعتقدون أن «رجاء»ـ المهتمة برشاقتها، المرحة إلى أبعد مدى، المنطلقة دومًا- ستُخرب البيت، ولن تهتم بالأولاد، ولن، ولن.. بينما كان اعتراض أهل «رجاء» نابعًا من فرق السن بينهما، وأنها ستدفن شبابها مع رجل كان متزوجًا من قبل.
 
وعلى عكس طبيعة أهل الريف، تم الزواج بعد بضعة أسابيع من تعارف العائلتين.. وخَلَفَتْ «رجاء» عُشَّ أبيها وانتقلت إلى بيت زوجها، الذي كان يقيم في منزل العائلة مع شقيقه الأصغر.
 
كأي زواج مثل هذا، فإن أهل الزوج، والزوجة المتوفاة- ينتظرون «شهر العسل»؛ لبدء مرحلة «جس النبض»، وشن الهجوم على الزوجة الجديدة؛ تمهيدًا لـ«تطفيشها» إذا ما افتقدت حِنكة التعامل مع الأبناء الخمسة، الذين تم توزيعهم على الأهل؛ ليستمتع العروسان ببعضهما.
 
لم يكد يمر يومان على الزواج، حتى طلبت العروسة الجديدة من زوجها أن يأتي بأولاده الخمسة؛ ليعيشوا في كنفها.. وفي صباح اليوم الثالث، حضرت «خالات» الأولاد إلى بيت الزوج، واضعات في اعتبارهن أن «العروسة الجديدة» ستستيقظ بعد الظهر؛ تاركة أبناء شقيقتها الراحلة وشأنهم.. لكنهن فوجئن بـ«العروسة» وقد ارتدت ملابسها المنزلية؛ وتغسل ملابس الأولاد، وتمشط شعر الطفلتان- رغم مرض أَلمَّ بعين الزوجة الوافدة.. فلم يَطلْ مكوثهن في المنزل وانصرفن، وعلى وجوههن علامات الرضا.. وقالوا لأبناء شقيقتهن- لاحقًا- إنهن- بعد هذا المشهد- اطمأننَّ عليهم وهم بين يدي «أمهم الجديدة».
 
«رجاء» كانت أصغر من شقيقات الزوجة المتوفاة، بل إنها كانت- تقريبًا- في عُمر أكبر بناتهن، ورغم ذلك احترمنها، ولم يكنّ ينادينها باسمها إلا مسبوقًا بكلمة «أبلة».
 
وصول «رجاء» إلى قلب وعقل الأطفال «الخمسة»، كان أسرع مما توقع الأهل.. ومنحوها طواعية لقب «ماما»، بمباركة الزوج ووالديه، بل ووالد زوجته المتوفاة.. بينما رأى شقيق الزوج وزوجته أن الأمور تسير عكس ما كانا يتوقعان لها أن تسير.. فقد كانا هما المستفيدان الأكبر قبل وصول «العروسة» إلى البيت؛ لأنهما كان يحصلان من «أبو الأولاد» على أموال كثيرة مقابل الخدمات والرعاية التي كانا يقدمانها لهم، والتي لم تكن ترضي الأطفال الخمسة ولا والدهم.. لكنه كان مضطرًا لتَقبُل الوضع، عسى الله يحدث بعد ذلك أمرا.
 
يومًا بعد يوم يزداد تعلق الأطفال بـ«ماما رجاء»، وكلما زاد هذا التعلق، زادت كراهية عمهم وزوجته لها؛ فكانا يتفننان في تكدير عيشها، والإساءة إليها، وهي، مُتحملة، صابرة، مثابرة، لا تشتكيهما لزوجها، ولا تهرب بجلدها إلى بيت أبيها.. فقد كان الزواج قرارها، وعليها تحمل تبعات هذا القرار.
 
«معاملتها لأولاد زوجها ستتغير بعد أن تنجب».. كان بعض المتربصين بـ«ماما رجاء» لا يملون من ترديد تلك العبارة؛ آملين أن تسوء العلاقة بين الطرفين؛ لتنهال عليهم عطايا الزوج كما كانت.
 
مرت شهور والزوجة الجديدة لم تحمل.. كان عليها الإجابة على التساؤلات التلقيدية للحاشرين أنوفهم في شؤون الآخرين: «إيه الأخبار»، «هنفرح بالمولود إمتى»، «مش ناوية تجيبيلك حتة عيل يقولك ماما بحق وحقيق»، «إنت نفسك ليه وماروحتيش للدكتور للغاية دلوقت»، «يمكن معمولك عمل»، «إحنا عارفين شيخ كويس له بركات، وأكتر من واحدة ربنا كرمها على إيده»، «يمكن العيب في الزوج المصاب بفيروس كبدي وبائي»؟
 
البعض كان يشفق عليها، ويتعاطف معها.. بينما كان آخرون لا يتورعون عن إظهار الشماتة فيها.. 
 
«لا توجد موانع للحمل». أكدها لـ«رجاء» وزوجته أكثر من طبيب مشهور متخصص في أمراض النساء والتوليد.. وكل طبيب يعطيها أدوية، ويقدم لها بعض النصائح.. ولكن الله ((يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)).
 
التسليم بقضاء الله، والأخذ بالأسباب كان شعار الزوجين.. مرت سنوات على هذا الحال.. وأبناء الزوج يملأون حياة «رجاء»؛ يبادلونها حبًا بحب، وودًا بودٍ، وأمومة ببنوة.. لدرجة أنها في بعض الأحيان لم تكن تفكر في الذهاب إلى طبيب باحثة عن الإنجاب.
 
«الأم الحقيقية هي إللي بتربي مش إللي بتخلف».. كان المحبون لـ«ماما رجاء» يرددونها على مسامعها، مشيدين بتربيتها لأبناء زوجها، حافظين لها حسن رعايتها لهم، والإقامة على كل شؤونهم.
 
كلما كبر الأولاد ازدادوا تعلقًا بـ«أمهم رجاء»، التي باتت مستودع سرَّهم، وكاتمة أسرارهم، ومنفذة أفكارهم، وساترة عيوبهم، ومرشدتهم إلى الصواب، ووسيطهم عند أبيهم.
 
في هذه الأثناء ازدادت العلاقة سوءًا مع عم الأولاد.. فجاءت فكرة الخلاص، وبناء منزل كبير للانتقال إليه.. وقد كان.
 
المنزل الجديد كان قدم الخير.. تجارة الزوج اتسعت.. الأموال زادت.. وكبُر الأولاد وحبهم لـ«ماما رجاء»، وعندما وقع خلاف بين أبيهم وزوجته، ذهبت- على إثره إلى بيت أهلها- ضغطوا عليه: «يا تصالحها يا نروح نعيش معاها»، فخضع، وذهب لاسترضائها، وعادا سويًا في السيارة التي كتبها باسمها هي والبيت الجديد.
 
الترتيبات لزفاف الابنة الكبرى على ابن خالها كانت تتم على قدم وساق.. فجأة مرض الزوج.. أحس بـ«شوية سخونة».. كان من النوع «الموسوس».. ذهب إلى مستشفى الحميات.. مضى يوم والأطباء يبذلون ما في وسعهم لإخفاض درجة الحرارة؛ حتى لا تؤثر على «الكبد» الذي تعرض جزء كبير منه للتلف.
 
في اليوم التالي.. بدت صحة الزوج أفضل من اليوم السابق.. أمسك بيد «رجاء»؛ ليقبلها.. داعبته.. تعلق بـ«رقبتها».. أوصاها بأولاده.. قبل أن يُخرج آخر أنفاسه، ويُسلم الروح إلى بارئها.
 
«كلٌ يُغني على ليلاه».. فبينما «رجاء» وأبناؤها الخمسة، لم يستوعبوا الصدمة بعد، رغم انتهاء مراسم الدفن، وتقبل العزاء في «المغفور له».. ظهر العم عارضًا خدماته عليهم، مطالبًا إياهم بالبحث عن دفاتر حساباته لحفظ حقوقه.. بينما كان «الجد»- والد الزوج- لا حول له ولا قوة- أمام ابنه المتجبر.
 
أيام مرت على الوفاة، وبدأ الأهل يُلمِّحون إلى وجود «رجاء»، ومدى مشروعية ذلك، خاصة أنها لم تنجب أطفالًا، ووجودها في المنزل مع الأولاد- الذين تجاوز بعضهم مرحلة المراهقة- يفتح الباب للقيل والقال.. وهي مازالت شابة، لم تتجاوز منتصف الثلاثين بعد.
 
قاد العم رحلة تقسيم تركة أخيه الراحل، آملًا أن يكون «وصيًا» على الأبناء الذين لم يبلغوا سن الرشد القانونية بعد.. لكن خاب مسعاه عندما علم أن «المنزل والسيارة» مكتوبان باسم «رجاء».. فكان ذلك إيذانًا بشن حربٍ قذرة عليها، بتأليب الابن الكبير لأخيه عليها.. ووقف «الجد» أكثر من مرة مع «رجاء»، وعرض عليها أن تكون هي «الواصية» على أبناء ابنه، ولتكمل جميلها، وتحتسب ذلك عند الله.
 
على مضضٍ، وافقت «رجاء» على اقتراح «الجد»، وتنازلت «طواعية» عن «المنزل والسيارة»؛ مرتضية بنصيبها «الشرعي» من الميراث.. فكان تصرفها ذلك محط تقدير من كبار العائلة.
 
في يوم مشهود، ذهب الجد والأبناء الخمسة و«رجاء» إلى المحكمة الشرعية بصحبة أحد المحامين، لتحديد «الوصي» على الأولاد «القُصَّرْ».. ووقف الجميع أمام القاضي، وهو ينظر بعين في ورق الدعوى، بينما عينه الأخرى ترمق «الأبناء» وهم يحتضون «أمهم رجاء».. وسمع منهم ومن الجد كلامًا أجبر دمعة على النزول من عينيه، قبل أن يقول لـ«رجاء»: «هو لسه فيه حد زيك لغاية دلوقتي.. والله لو أطول أبوس راسك عرفانا بجميلك»، وحكم- لأول مرة في حياته، كما قال- بأن تكون «الوصاية» لـ«زوجة الأب»، التي أكملت مسيرة تربية أبناء زوجها، حتى تزوجوا وأنجبوا جميعًا، فصارت تحمل لقبًا جديدًا «تيتا رجاء».