التوقيت السبت، 16 نوفمبر 2024
التوقيت 07:30 ص , بتوقيت القاهرة

"بلا أثر".. تحقيق استقصائي يكشف تآكل الأراضي الأثرية في مصر (1-4)

معالم الفسطاط الأثرية تحت تلال مخلفات "شركة السباخ"


المتعدي ينجو من العقوبة.. والحكم على مفتش الآثار بالحبس سنتين!


صور القمر الاصطناعي توضح تمدد التعديات في المنطقة.. والخريطة الأثرية تعتبرها أمرا واقعا


التعديات انتهاك لاتفاقية حماية التراث العالمي.. واليونسكو تتجاهل طلب الرد


تحقيق – أحمد عيد عاشور وعلاء أبورية


لم نكن نتخيل ونحن على أعتاب منطقة حفائر الفسطاط الأثرية أن كل هذا قد حدث في الرقعة التي من المفترض أن تحتفظ  بشواهد أول عاصمة إسلامية في إفريقيا. فبمجرد دخولنا للمنطقة اصطدمت أعيننا بتل من الرمال المختلطة بالمخلفات والأتربة، تجاوره على يسار بنايات شاهقة مختلفة الألوان، وتتاخم الأرض الأثرية من الجنوب والغرب عمارات شعبية تكتسي بالطوب الأحمر. كل هذا يحاصر قطعا أثرية نادرة يضيق عليها الخناق حينًا بعد حين، حتى تكاد تتلاشى معالم منطقة تدخل ضمن قائمة التراث العالمي المعتمدة من قبل منظمة "اليونسكو"، بجانب ستة مناطق أخرى فقط في مصر.


ما رأيناه في منطقة الفسطاط من معالم دخيلة وزحف متواصل على الأراضي الأثرية، ما هو إلا نموذج للتعديات الواقعة على الأراضي الأثرية الخاضعة لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983، الذي ينص في المادة 20 أنه "مع مراعاة الاشتراطات الخاصة التي تصدر من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية بناءً على عرض الوزير، لا يجوز منح رخص للبناء في المواقع أو الأراضي الأثرية، ويحظر على الغير إقامة منشآت أو مدافن أو شق قنوات أو إعداد طرق أو الزراعة فيها أو في المنافع العامة للآثار أو الأراضي الداخلة ضمن خطوط التجميل المعتمدة".


وتشدد المادة أيضا على أنه "لا يجوز غرس أشجار بها أو قطعها أو رفع أنقاض منها أو أخذ أتربة أو أسمدة أو رمال، أو إجراء غير ذلك من الأعمال التي يترتب عليها تغيير في معالم هذه المواقع والأراضي، إلا بترخيص من المجلس وتحت إشرافه".


تحقيقنا الذي بدأ من الفسطاط ليشمل أربع محافظات، وثق مدى خرق هذا القانون بوقوع مختلف أشكال التعديات على أراضي الآثار دون معاقبة للمتعدين.


ووفقًا لإحصائية رسمية حصلنا عليها لم ينفذ إلا 14% من قرارات الإزالة الصادرة ما بين عامي 2015 و 2016.


ويكشف التحقيق أن الأمر قد وصل في بعض الأحيان إلى التنازل عن أراضي الآثار بالمخالفة للقانون، لتصبح المحصلة النهائية هو التآكل التدريجي لمساحات تكتنز معالم أثرية تاريخية لا تقدر بثمن، وانتهاك لنص المادة 49 من الدستور الذي يعتبر أن الاعتداء على الآثار "جريمة لا تسقط بالتقادم".


زحف تل المخلفات


منطقة حفائر الفسطاط تقع بجوار مقر شرطة السياحة والآثار، الذي وصل  إليه في 14 أبريل 2015 مذكرة من منطقة آثار الفسطاط بأن "الأمر بات في أسوأ حال بمنطقة آثار الفسطاط، نظرًا لقيام الأهالي والخفراء التابعين للمدعو/  إ.ه.إ (نحتفظ باسمه) مدعي ملكية أرض شركة السباخ، بتسهيل دخول العربات المحملة بالمخلفات والأتربة ليلًا وإلقائها على الأرض الأثرية الخاضعة لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته بالقانون رقم 3 لسنة 2010 والقانون رقم 61 لسنة 2010 وذلك بموجب القرار الوزاري رقم 158 لسنة 1981".


جاءت هذه المذكرة لتظهر كم المخاطر التي تواجهها المنطقة جراء التعدي عليها، "ما أدى إلى ردم مساحات كبيرة من الأراضي الأثرية، ويشكل خطورة أمنية بالغة على منطقة المخازن المجاورة، حيث استمرار الردم يؤدي إلى طمس معالم أثرية هامة مثل حفائر مركز البحوث الأمريكية وأجزاء من أطلال مدينة الفسطاط الأثرية، علمًا بأن تلك المخالفات مستمرة منذ فترة طويلة، وقد سبق البلاغ عنها مرارًا وتكرارًا نظرًا لعدم انقطاعها، مما أدى إلى عزل جزء كبير من المدينة الأثرية عن بعضها البعض، الأمر الذي لا يمكن معه وصول تلك المخالفات إلى المكاتب الإدارية بمنطقة آثار الفسطاط"، وفقًا للمذكرة.


وجاء في ختام هذه المذكرة طلب باتخاذ "الإجراءات القانونية اللازمة لوقف تلك الممارسات المذكورة في ضوء أحكام قانون حماية الآثار".


 وبالفعل تم اتخاذ إجراء، حيث تم تحويل هذا المحضر إلى قضية تحمل رقم 5638 لسنة 2015، وتم الحكم فيها فعليًا في يوم 13 سبتمبر 2015، بالحبس سنتين وغرامة 10 آلاف جنيه، ولكن جاء هذا الحكم ليدين مفتش الآثار الموقع أدنى طلب الإحاطة السابق، وعدم ذكر المتعدي في نص الحكم الذي حصلنا عليه، في سابقة فريدة من نوعها.


مستند يثبت التعدي على أرض الفسطاط


زرنا هذه المنطقة بعد ما يقرب من سنتين من إرسال المذكرة، ووجدنا أن مخلفات الردم تعاظمت لتشكل تلًا مكونا من الرمال وبقايا الطوب والغبار، وباستخدام الصور التي يوفرها القمر الاصطناعي للمنطقة سابقًا وحاليًا يبدو مدى ارتفاع هذا التل، وما أحدثه من تغيير في معالم المنطقة.


مباني الأمر الواقع


أما مباني الجهة الغربية لا يفصل بينها وبين أرض الآثار إلا سور منخفض لم يمنع المباني من التوغل، ما جعل التفتيش يحرر محاضر ضد المتعدي، بدون جدوى. 


توجهنا بسؤال إلى مصدر مسؤول بمنطقة آثار الفسطاط (رفض نشر اسمه) عن الوضع القانوني لهذه البنايات، أكد أن هذه المنطقة خارج حدود الأراضي الأثرية، إلا أننا حصلنا على خريطة المنطقة الرسمية، التي تصنف غرب وجنوب منطقة آثار الفسطاط بأنها مناطق "تعديات الأهالي".


تل التعدي على أرض الفسطاط الأثرية


ويبين القمر الاصطناعي زحف المباني على الأرض الأثرية بمقدار 6 أمتار ونصف منذ 2009، وظهور مبنى عرضه 19.68 متر، ويبعد عن السور الذي يحوط المناطق السكنية بـ56 مترا. وبسؤال المصدر ذاته عن وضع هذه الأرض، أشار إلى أن هذه الأرض تم الاستيلاء عليها بطريقة وضع اليد.


 


القمر الصناعي يرصد المباني الدخيلة على أرض الآثار


هذه  المنازل لم تكتفِ بامتدادها داخل أراضي الآثار، بل امتدت إليها مرافق عمومية، بالمخالفة لنص النشرة الصادرة من مكتب الأمين العام برقم 9452 بتاريخ 20 سبتمبر 2010، التي تشدد على ضرورة إبلاغ المحليات والمحافظات بضرورة عدم إدخال مرافق لمناطق التعديات.


خريطة توضح تعديات الأهالي على منطقة الفسطاط


اليونسكو تتجاهل


الفسطاط تدخل في قائمة التراث العالمي، وقد حصلنا على خرائط وصور من منظمة الـ"يونسكو"، تبين مدى التحول الذي جرى في المنطقة نتيجة للتعديات التي وقعت عليها، ما دفعنا للتوجه إلى مكتب اليونسكو بالقاهرة لسؤاله عما أنجزه مشروع "الإحياء العمراني للقاهرة التاريخية" الذي تم الإعلان عنه في يوليو 2010، والذي يهدف لتطوير عدة مناطق من بينها منطقة حفائر الفسطاط، إلا أن المكتب طلب منا توجيه الأسئلة رسميًا عبر البريد الإلكتروني، وهو ما فعلناه، ولم يتم الرد، حتى إعداد التحقيق للنشر.


صورة لليونسكو لمنطقة الفسطاط


وتنص المادة الرابعة من اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي الموقعة عليها مصر عام 1972، على مسؤولية كل دولة عن حماية المناطق الأثرية الداخلة في نطاق الاتفاقية.


طالت يد التعديات أيضًا أراضي مصر الفرعونية في الجيزة، وهو ما يكشف عنه الجزء الثاني من هذا التحقيق.