فيلم.. "مشرط الأنوثة"
اليوم العالمى لرفض ختان الإناث
تنظر حولها فتجد فتيات صغيرة فى سنها أو أقل يصرخون ولكنها لم تسمع أصواتهن وترى سيدات مرتديات ملابس بيضاء ويمسكن بآلات معدنية لامعة تحت ضوء الغرفة التى شعرت من اتساعها إنها لا تنته، الأسرة تلو بعضها على كل منها فتاة ممسك بها سيدتان بطريقة تمنعها من النهوض وتأتى أخرى بهذه الآلات لتنزل على مكان بين ساقيها فينتفض الجسم الصغير وتسيل الدماء ثم تختفى الفتاة لتجلس أخرى مكانها .. المشهد كان أكثر رعبا مما تتخيل ولكن انقطاع الصوت من حولها وعدم وضوح الرؤية أمامها جعلها تتوقع أن الحوائط ستنفتح لتنقلها لعالم آخر إذا دفعت بنفسها عبرها مثلما يحدث فى أفلام الانتقال عبر الزمن.
ارتمت بكل جسدها تجاه الحائط لتهرب، فأعادها الألم للواقع وأعاد لها سمعها وإحساسها بالحياة مرة أخرى، عندها تذكرت كل شىء أن اسمها أمنية وعمرها 11 سنة، ووالدتها وجدتها زجوا بها فى هذا المكان المرعب لمجرد أن بطنها كانت تؤلمها، وسحبتها أيدى السيدات الضخمة ذات الملابس البيضاء بمثابة دخولها من الباب، حاولت الامساك بوالدتها وجدتها ولكنهما تركاها ولم يتحركا لهما ساكنا وهن يأخذوها بعيدا، نظرت لنفسها فى هذا الوقت وحاولت استجماع قواها لتجرى بالخارج فوجدت نفسها لا تقو على القيام من الأرض التى امتلأت ببركة من الدماء من حولها وتلمست جسمها لتستوعب أنها فى نفس المكان الذى اختفت فيه الفتاة أمامها بعد أن تم تقطيع أجزاء مما بين ساقيها والذى لم تعرف ما يعنيه ذلك فى مثل سنها.
حاولت الصراخ ولكن صوتها كان قد انقطع مسبقا من الألم الذى عانيته عندما قامت السيدة بالقطع مرارا وهى تراها وتشعر بكل شىء ولا تستوعب لماذا يحدث لها ذلك، هل هو عقاب على أمر خطأ صدر منها دون وعيها أم آلام بطنها احتاجت لكل هذا العذاب من أجل علاجها أم أنها تحلم بداخل كابوس بشع سينقضى قريبا.
أمنية إبراهيم هى واحدة من بين فتيات كثيرة يتم ختانهن فى مصر، فبحسب المسح السكانى الصحى الأخير لعام 2014، والذى شارك فيه عدد من المؤسسات الدولية بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ودعم اليونيسيف وصندوق الأمم المتحدة للسكان، حوالى 92% من السيدات المتزوجات فى الفئة العمرية ما بين 15 إلى 49 تم ختانهن، وأكثر من نصف السيدات اللاتى سبق لهن الزواج والمختنات قد تم ختانهن بين العمر 7 و10 سنوات، وتقريبا جميع السيدات التى تم ختانهن كان قبل بلوغهن 15 سنة، والأشخاص الذين يعملون فى المجال الصحى أكثر احتمالا أن يقوموا بإجراء عملية الختان بين البنات (82%).
المكان الذى بدأت معه مأساة أمنية كان المستوصف الذى يقرب من منزلها بضواحى شبرا بالقاهرة، والذى وصفته أمنية بعقلية الفتاة الصغيرة التى عانت طفولتها وتمنت بكل جوارحها إذا لم تكبر فى السن أو تصل لسن البلوغ حتى لا يحكم عليها أهلها هذا الحكم الصعب بتشويه عضوها التناسلى، حيث تم إجراء ختان سودانى لها من النوع الثانى الذى يشمل إزالة ما يقرب من 3 أرباع عضوها التناسلى من خلال قطع البظر والشفرتين الداخلتين مع ترك الشفرتين الخارجيتين فقط.
زغاريط و"نقطة" ومبروك الطهارة
أمنية الفتاة الثلاثينية تستعيد ذكريات هذا اليوم بكثير من الألم وتسرد تفاصيل لم تنساها أبدا قائلة " خرجت من المستوصف مع أمى وجدتى وأدركت فى هذه اللحظة فقط أن أختى الصغيرة كانت معى عندما دخلت واتضح أنه أصابها ما أصابنى، ركبنا التاكسى عائدين للمنزل وعندما رأى السائق حالنا ونحن نبكى سأل عن السبب"، مضيفة "جدتى قالت له قولهم مبروك اتطهروا".
أول مرة تسمع الطفلة الصغيرة هذه الكلمة التى هزت أرجائها بالكامل وهى تبكى، وبدأ عقلها فى التساؤل ماذا يعنى أنها أصبحت طاهرة وكيف كانت من قبل وما الذى ارتكبته ليحتاج هذا التصحيح، وأخذت دموعها الحارة مع النشيج يعلو أكثر، وبمجرد نزولها من "التاكسى" وجدت أفواج من الجيران فى استقبالها يزغرطون وأهلها يضحكون ويبتسمون بينما تبكى مع أختها ويضعون فى أيديهم بعض الأموال "نقطة" الطهارة كما كانوا يقولون لها وهى لا تدرك شيئا مما يحدث حولها فهل ألمها هو سبب سعادتهم الغامرة!
تشوه داخلى وفقدان الإحساس بالأمان
فقدت أمنية الإحساس بالأمان وظلت لأيام لم تتحدث مع أحد وكلما كانت تدخل الحمام، كانت تشعر بألم شديد لذلك قررت أن تمارس ما كانت تراه فى التلفزيون من تطهير الجروح، فمسكت بزجاجة المطهر الموجودة بالحمام ووضعت منه البعض على مكان القطع لتحمى نفسها بعيدا عن اللجوء لأحد.
لم يتحدث أحدا معها من أهلها ولم يفهمها أى شخص ما الذى مرت به ولماذا تعرضت لكل هذه المعاناة، وأخذت عقلية الطفلة فى التعامل مع أهلها على أنهم خانوها وتركوها لأشخاص لم تعرفهم ليفعلوا ذلك بها ثم باركوا ألمها، تقول أمنية "استمريت عشرين سنة لم اتحدث عن الأمر ولم يتحدث عنه أحد من حولى إلى أن واجهتهم ذات يوم عندما علموا أننى أخضع لجلسات نفسية للعلاج من أثر هذه الصدمة التى لم تتركنى لأعيش أبدا".
فمنذ هذا اليوم لم تقف أمنية أمام مرآة مثل غيرها من الفتيات وكبرت وهى تخاصم مرآتها لا تريد أن ترى انعكاسها الذى اعتقدت دائما أنه مشوه تماما حتى أنها لم تقو على النظر له، كانت تعلم جيدا أن ما حدث لها اقتطع من جسدها أشياء تخصها لم يخلقها الله بها لتتم إزالتها بالكامل بهذه الوحشية، لم تفقد فقط جزء من جسمها فى هذا اليوم بل رغبتها أيضا فى الحياة وشعورها بأنوثتها.
تقول أمنية " عندما واجهتهم لم يقولون شيئا وكأنهم مندهشين أن الأمر يؤثر بهذا الشكل على حياتى، فقط عبروا عن مفاجأتهم لما أقوله وكأن ما حدث أمر طبيعى ولم يدركوا أنه قد يصل بى لمرحلة من الألم الداخلى الذى لم يتوقف".
والحقيقة أنه لم تكن والدة أمنية فقط هى من تعتقد أن ما حدث مع ابنتها أمر طبيعى، فبحسب ما ذكره المسح السكانى الأخير فى مصر، هناك أكثر من نصف السيدات يعتقدن أن ختان الإناث مطلوب وفقا لتعاليم الدين كنوع من الطهارة.
رحلة أمنية مع الحياة
أمنية اختارت أن تعيش حياتها بقليل من الألم الذى تحمله بداخلها، لذلك كانت خطواتها تجاه عيادات الطب النفسى، التى جعلتها أقل وجعا وأكثر قوة من ذى قبل، فلم تواجه أهلها فقط بل واجهت عالمها بأكمله وربما بدأت بخطيبها الذى كانت تقدر وجوده فى حياتها ولكنها لم تشعر تجاهه بشىء ربما لمشكلات نفسية وجسدية معا، فتصف أمنية إحساسها للجنس الآخر بأنه شبه متجمد فلا تشعر بشىء معبرة عن حالتها بـ" قالب ثلج لا يشعر ولا يرغب".
وصفت أمنية حالها قائلة " عندما تقدم لخطبتى صديقي المقرب لم تنتابنى تلك المشاعر التى كنت اسمع عنها عندما يلمس الرجل يد المرأة بشىء من الحب والرغبة، بل كنت أشعر بالانزعاج وأننى غير مرتاحة لكل التفاصيل رغم تقبلى للشخص، لم استطع ان استمر فى التمثيل فكنت فى كل مرة أكرهنى وأكرهه وأكره جسدى والجنس وعائلتى والمجتمع".
حاولت أمنية كسر حاجز الصمت وبدأت تشرح له عن مخاوفها وآلامها وشعورها هذا الذى لم تعرف غيره، والذى بدوره حاول التفهم فى البداية، ولكنها كانت تدرك أن العلاقة محكوم عليها بالإعدام وبالفعل انفصلوا للأبد، ومنذ هذا الوقت أخذت أمنية قرار بعدم الارتباط بأى شاب رغم عروض الزواج لأنها ظلت تشعر بأن جسدها وروحها غير كاملين وحتى تستطيع أن تكمل هذا الفراغ الذى يوجد بداخلها بعد انتزاع جزء منها، ستمتنع عن الزواج وإنجاب أطفال قد لا تتمكن من تحمل مسئوليتهم فى هذه الحالة التى تشعر بها والمجتمع الذى لم تتصالح معه بعد.
أمنية حاليا تمكنت من رفع الستار عن مرآتها الذى كانت تخبأها حتى لا ترى نفسها كل يوم، وغيرت ملابسها السوداء والغامقة التى كانت ترتديها دائما وأصبحت حياتها أكثر ألوانا وإشراقا مما كانت عليه وقررت أن تتحدث للجميع وتحكى عن ما واجهته فى اليوم العالمى لرفض ختان الإناث لتطلب من كل أم أن لا تفعل هذا بابنتها وتصل بصوتها لكل منزل به طفلة تريد أن تعيش حياتها دون وجع أو تشوه.
تريد أن تمنع انضمام أعداد أخرى لمجموع النساء الذين يتعايشون مثلها مع آثار تشويه أعضائهن التناسلية، والذى قدرته منظمة الصحة العالمية بنحو 125 مليون امرأة في 29 بلداً بأفريقيا والشرق الأوسط، حيث يتركز تشويه الأعضاء التناسلية، والممارسات الراجعة لعمليات الختان المبالغ فيها.