شايف البحر شو كبير ؟
من ضمن الأرشيف العربي لأغاني الحب وقصائدها هناك عبارات تلازمنا في حياتنا اليومية، فعندما غنّت السيدة فيروز في الستينات من القرن الماضي "شايف البحر شو كبير؟ كِبر البحر بحبك. شايف السما شو بعيدة؟ بُعد السما بحبك" من كلمات الأخوين الرحباني وألحانهما، ردد الكثير من المحبين هذه الكلمات للتعبير عن عِظم حبهم، ورغم مرور السنين لا زالت المقارنة قائمة ولا زال كِبر البحر وبُعد السماء عبارات معتمدة لوصف مدى الحب.. مما تقدمه البيئة المحيطة بالإنسان؛ من بحر أو سماء، ومما تقع عليه عيناه ويعظم بهما.
ومع أنَّ العلم قد قدَّم أرقامًا على درجة عالية من الدقة لحجم البحار - والأرجح أنَّ فيروز كانت تقصد البحر المتوسط -، كما قدَّم أرقامًا لبُعد طبقات الغلاف الجوي عن الأرض، فإنَّ هذه الأرقام لا تبدو بديلاً مُرضيًا ومغريًا للاستخدام عندما نصف المحبة.. ربما لأن الرومانسية لا يليق بها أغنية تقول: "شايف اتساع الـ1550.000 كيلومتر مربع شو كبير؟ كِبر هالمساحة بحبك. شايف مسافة الـ500 كيلومتر شو بعيدة؟ بُعد هالمسافة بحبك." أو ربما لأن عين الحب قاصرة عن إدراك لغة الأرقام، بخلاف عين المصلحة التي لا ترى سواها.
ومع أنَّ العلم قد كشف عمّا هو أكبر وأبعد من البحار والسماء المحيطة بكوكب الأرض من كواكب ومجرّات وأكوان، إلا أنَّ المحب لا زال قانعًا بما يستطيع رؤيته بالعين المجردة. لعل الكلمة المفتاح للمسألة هي "شايف".. لو كانت "مُدرك" لكان من الممكن تعديل المقارنة إلى ما يتلاءم مع عصر التليسكوبات والمجسّات المتطورة ولكان منطقيًّا أن تصبح: "مدرك كِبر حجم مجرة درب التبّانة؟ بِقُطر 100.000 سنة ضوئية بحبك." لكنها بهذه الصيغة لن يكون لها الوقع ذاته، ربما لأن حاسة البصر المحدودة تسبق العقل والأعمال الحسابية في التأثير على النفس.
ويخطر في بالي الآن أنَّ المسألة قد تكون متعلقة بمبدأ المقارنة نفسه؛ إذ لماذا يجب أن تكون هناك مقارنة أصلاً؟! لما لا يمكن للمحب أن يعبِّر عن إخلاصه وصدق نواياه بشكل مباشر دون أن يضطر للجوء لأية صور جمالية مادية تجسد المعنى وتقربه للعين ومنها للقلب؛ كأن يقول: "شايف مهما كان اللي فيه خير لك صعب وبعيد؟ بحبك بدرجة تخليني أعمل كل جهدي عشان أحققه لك." مفهوم طبعًا أنَّ هذا الكلام لن يكون خفيفًا لطيفًا للمسامع، ولن يداعب الأذن، ولن يصل القلب في اللحظة ذاتها بالتأثير المرجو.
بما يخاطب الحواس والقلب وليس الإدراك والعقل، وبعبارات مبهمة وفضفاضة دون تحديدٍ للمعاني والمقاصد، هكذا درجت العادة في خطب ودِّ ورضا الحبيب. وتبقى تساؤلات عن إمكانية استخدام ذلك في مجالات أخرى كالسياسة؛ هل يُخطَب ودُّ المواطن للوصول إلى منصبٍ ما؟ هل تكفي عبارات وشعارات جذابة ومحاولة الوصول لقلبه لا لعقله؟ هل هو ممكن لِجموع الملايين كما هو بالنسبة لشخص واحد؟
وإذ تُكمل فيروز أغنيتها بــ"نطرتك(*) أنا، ندهتك أنا، رسمتك على المشاوير" ربما تنبِّهنا أنَّ للانتظار دوره؛ فكلما طال الانتظار وزادت معاناة شعب، كان لوعود خاطبي ودِّه مصداقية أكبر، لكنها ليست أكبر من تلك التي للسيرة السابقة والمسيرة المتَّبعة والإنجازات المأمولة.
(*) نطرتك؛ تعني باللهجة اللبنانية: انتظرتك.