التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 11:08 م , بتوقيت القاهرة

المشابك مأساة لا تنتهي

يختل توازن " المشبك " في يدي اليمنى.. أحاول اللحاق به لكنه يصر أن يقع.. أتابع سقوطه من البلكونة حتى يقوم بالـ  Safe Landing على صلعة  " عم أشرف" صاحب محل الإلكترونيات أسفل عمارتنا.


-  يدفع هذا "عم أشرف" للنظر لأعلى متنهداً بنفاد صبر، أشير له معتذرة كالعادة، ليس ذنبي أن رأسه كالمغناطيس تجذب المشابك فوقها!


- ألتفت لعلبة المشابك الخاوية بجانبي، محاولة تحصيل عدد المشابك الذي وقع مني اليوم.. وألاحظ ارتفاع معدّل السقوط .. أترك من يدي بنطلون بابا الأسود وكيس المخدة، وأقف لحظة لأسترجع توازني وهدوئي وأفكّر (ماذا لو علمت ماما!!).


- أبعد هذه الفكرة عن رأسي سريعاً، وأشرع في ممارسة عبادة التأمل الكوني، فأتطلّع لأعلى حيث لا يوجد ما يحول بيني وبين السماء اللبنية، المضاءة بنور شمس ساطع، يزيّنها طيور من كل الأشكال.. تطير في حلقات دائرية منتظمة، في سرب واحد لا يخرج عنه أحد ..  تعلم تماماً متى عليها أن تزيد سرعتها و متى عليها أن تستريح فوق غية الحمام الخضراء !


"يا الله ! كم تظهر عظمتك في أصغر الكائنات ! "


- أشعر بفقرات رقبتي و قد آلمتني ، فأخفض رأسي لتصدمني الأرض حيث الواقع المرير، عالم مليء بالصخب.. تختلط فيه الروائح والأصوات والحركة و المشاهد والنوايا.


- يؤذّن "عم رضا" لصلاة الظهر ، فيهرع شاباً حاملا مصليته بيده، وعجوز تجاوز الـ90 عاماً على ما أظن يسير بخطى سلحفاة بطيئة ليلحق بالصلاة.. فيساعده آخرون.


- يعبرون بجانب مطعم "عم أحمد " بتاع الفول حيث يعنّف ابنه الصغير لأنه لم يقشّر البطاطس بشكل رفيع أو ربما لأنه قشّرها في الأساس.. باعتباره نوعا من أنواع الإهدار في الموارد.. فيشوّح الولد لأبيه، ويدفع هذا "عم أحمد" للانقضاض عليه وقد حلف أن يبطحه.. يهرع شباب المنطقة ذوو الشورت والحظاظة بالتحجيز بينهم.. تاركين  "ثريا" بائعة العصافير المقلية التي يقضون يومهم في معاكستها !


- تمصمص "أم ملك" شفاهها على مشهد الخناقة المتكرر بين عم أحمد وابنه .. ممسكة بيد "ملك " التي تداعب القمل في رأسها.. متجهة بها نحو المراجيح لتمرجحها قليلاً حتى تلهيها عن الاهتمام بالقمل.. وتمنحها الوقت لتجف زجاجة الـ "ليسيد" المسكوبة على رأسها، لتسد المسام عن ولادة جيل جديد من القمل والسبان.


- تصل بها للزحليقة الهيليوم الضخمة الموضوعة بوسط الشارع تماماً حيث الكثير من أطفال المنطقة يتزحلقون ويصرخون.. بجانبهم البعض يضحكون أثناء التتنطيط في النطّاطة التي يتوسطها خرم كبير يسقط فيه الأطفال- ومعتقدين أنه جزء من اللعبة عادي - وآخرون مندمجون في تحويل غرفة الكرات الملونة لـ بحر من "البيبي".


- أستمع لـ صوت القطار.. وكلاكسات سيارات النقل المزعجة.. ورجل يصرخ في ميكروفون سيارة الإسعاف.. احتكاك عجلات موتوسكل بالأرض، حيث  قرر راكبه أن يقلب حصان.. وصوت المياه تُـرَش على أبواب المحلات.. نهيق الحمار الذي لا يتوقف.. صفارة ربحها طفل في نهاية المصاصة فلا ينقطع صفيرها.. مهرجان أوكا وأورتيجا يصدح من سماعات توكتوك عابر.. وصواريخ تطلق في الهواء رغم عدم وجود أي مناسبة لذلك! شعرت كم سأفتقد هذا العالم وهذا الشارع بكل مساوئه وصخبه.. بدا أن الانتقال من بيت لآخر وكأنه انتقال من بلد لآخر!


- قطع عليّ الانسجام .. صوت "ماما" حيث تصرخ "بقالك ساعتين بتنشري كام حتة غسيل ؟؟!!!! ليه إن شاء الله ؟؟ "


- قلت متجاهلة سؤالها "تصدقي يا ماما شارعنا هيوحشني أوي لمّا نعزّل"


- "شارع مين يا بت ؟


- "شارعنا ده يا ماما"


- " اللي يسمعك يقول هنعزّل كوالا لامبور.. مش هنعزل في العمارة اللي قدامنا ! "


- قلت متأثرة " ولو .. إزاي هقدر أسيب البيت اللي عشت فيه 23 سنة ؟؟ إزاي هشوف شارعنا من زاوية تانية غير اللي متعودة عليها ؟ أنا بحب البيت ده .. بحب أنه كِنز (صغنن) حبتين.. بحب أوضتي اللي مافيهاش مساحة حتى عشان أتنفس.. وأننا بنحاول نقسم الأكسجين عليا أنا واختي بالعدل وبما يرضي الله.


بحب مطبخنا الكبييييير رغم أني مابدخلش أعمل فيه حاجة.. بحب السرير أبو دورين واتعودت عليه... ومش عارفة هنام إزاي بعد كده وأنا حاسة أن مفيش حد فوقيا يحميني من أشعة الصبح المزعجة.. بحب كل شبر في بيتنا عشان ليا فيه ذكرى حلوة مستحيل تتكرر تاني.. أصل هرجع صغيرة إزاي تاني واتنطط عالسرير أبو دورين؟!


هجيب منين باب شقة زي بابنا اقف وراه وأقعد أغني لبابا وهو مسافر "افرض مثلاً مثلاً يعني إني خاصمتك يوم؟؟" هعيد إزاي لحظات نجاحي وفشلي اللي قضيتها في البيت ده.. هقدر إزاي افتكر كل ركن في البيت كنت بجري استخبى فيه وماما ماسكة الشبشب وبتجري ورايا... إزاي هفتكره وأنا مش عايشة فيه!


يا ترى مراية الدولاب المكسورة واللي اتعورت فيها وأنا في إعدادي ولسه معلم مكانها في إيدي لحد دلوقتي.. هتوحشني ؟! طب والبلكونة اللي ياما بصيت منها على اللي رايح واللي جاي وياما وقفنا فيها أنا وأختي نعد العربيات الحمرا والزرقا ؟


طب بلاش.. الركن اللي قعدت فيه لما تيتة ماتت.. وحسيت انه بيحتويني لأنه كان أكتر مكان بتحبه.. والعتبة اللي في الطرقة اللي بتفصل البيت لمستويين واللي لحد دلوقتي و بعد 23 سنة.. عمري ما اتعودت على وجودها.. وكل ما بعدي عليها بتكعبل وبأقع.


طب وحمّامنا الصغير اللي من غير بانيو.. ده أكتر مكان بيساعدني على الاستجمام والتفكير في البيت.. يا ترى هعرف أفكر في حمامنا الجديد أبو بانيو؟! يمكن دي سنة الحياة.. بس اللي أنا متأكدة منه اننا بنقدم على خطوة جديدة في حياة أسرتنا، هنفقد معاها حاجات حلوة كتير... ".


- نظرت لي ماما و قد جحظت عيناها غير مدركة  كلامي.. ثم  أدخلتني من البلكونة وأنابت عني في استكمال نشر الغسيل لكنها تفاجئت بعدم وجود مشابك فصرخت "منـــــــــــــــــــــــااااااااااااعععععة .. وقعتي المشابك تاااااااني ؟؟ "


?#‏زي_كل_يوم


??#‏إعمل_نفسك_ميت


#حافظوا_ع_الذكريات_و_تبتوا_فيها