التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 01:01 ص , بتوقيت القاهرة

لو كنت شيطانا

في سنتي الجامعية الأولى، جرّتني إحدى المهووسات بنظريات المؤامرة إلى عوالم الشك، فرحت أعبّر الرسائل المخفية بأفلام ديزني، وأتربص بإشارة الأهرام التي يقوم بها مطربو البوب، وأبحث عن نبوءات الكتاب المقدّس وتحذيرات أناجيل الأبوكريفا، فكل الطرق كانت تؤدي إلى روما.. وما أدراك بما تُخبئه روما.


بعد مُضي السنين، لم يعد يؤرقني نفوذ هذه الجماعات، والنهاية السوداوية التي تتربص بنا. وليس للأمر علاقة بكونها مُلفّقة، ولكني ببساطة لم أعد آلف العيش تحت سقف السلبية، وبين جدران المظلومية، ولم أعد أعتبر النظرية سوى دعوةٍ للتجابن عن التغيير.


ورغم أني اخترت أن أطلّق عالم المؤامرة ثلاثا بعد خِطبةٍ مُدبّرةٍ، وزيجةٍ قصيرة الأمد دمّرها الضجر، إلا أني لم أستطع التخلص من ادعاءٍ كنت قد سمعته ذات يومٍ عن الشيطان.


يقول المتبحرون في المؤامرة بأن أعظم نصرٍ حققه غريمنا الأزلي هو أن طرد الإيمان به من العقول، فصار الشيطان خرافةً استُخدمت لتبرير المعاصي وإخافة المجتمعات، وهكذا، استتب لـ"أخو شما" الأمر، وتمكّن من تجييش البشر نحو المحرمات دونما علمٍ أو مقاومةٍ منهم.


وربما يجد هذا الادعاء له موطأ قدمٍ في الغرب والشرق الأقصى، ولكن هذه المعادلة التي ربطت تراجع شعبية الشيطان بارتفاع إنتاجيته غير قابلةٍ للتطبيق عندنا، فليس الإيمان بالشيطان حيا يُرزق فحسب، ولكنّا اكتشفنا بين ظهرانينا أبالسةً من حمأٍ مسنون بات الشيطان نفسه يستجدي اعترافها به.


في الحقيقة، هناك تبريرٌ لتشبّث ذاكرتي بهذا الادعاء: لقد جعلني أتمنى لو كنت شيطانا!


قبل أن تشكّوا، أو تواصلوا الشك، في سلامتي العقلية والنفسية، فليس لدي نزعةً ساديةً للشرور، ولكن كما أصبح إبليس أسطورةً ليس على الناس أن يضعوا وجوده ورسالته وأهدافه تحت المجهر ليضبطوه متلبسا ويحبطوا نواياه، أريد أن تنساب آرائي وقناعاتي دون أن أتعرض لتحليل عقولٍ دقت نظريات المؤامرة أطنابها فيها، لتعتبر كل صوتٍ يخالفها نابعٌ من فمٍ أشبعته الخيانة، أو ضياع الهوية، أو العلل والاضطرابات.


وليست هذه كلمات امرأةٍ تسعى إلى إيقاع الغافلين في جبّ الغسيل الفكري، فأنا لم أعاهد الله على أن أُملأ جهنم بكم، ولم أبع ذمتي سوى للمأكولات السريعة؛ إنه بوح امرأةٍ باتت تفضّل أن تحيا كوهمٍ على أن تسمع ذات الاسطوانات الرتيبة، فتعود رغما عنها "ضحيةً لأفلام الكوميديا الرومانسية"، و"مقلّدةً للغرب" و"ملحدةً مستترة".


من المجحف حقا أن الشيطان بجلالة قدره يمارس مهنته العتيدة فلا ينبّش أحدٌ عن الأيادي الخفية التي تُحركه بعكس التيار، أو عن الإيديولوجيات الطالحة التي زُرعت برأسه، بينما لا يكاد المرء منا ينتقد الذكورية، أو التشدد الديني، أو حالة الطقس، حتى يهب المتذاكون للتنقيب عن تلك العقدة التي تعرّض لها في حضانة قسم الولادة فبات يسعى للانتقام من المجتمع.


متى-يا ترى-أغدو شيطانا لأقول لا في وجه من قالوا نعم؟