التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:38 م , بتوقيت القاهرة

كيف حول هتلر موسيقى الجاز إلى مبرر للإعدام؟

 بعد الحرب العالمية الأولى نظر كثيرون حول العالم وفي أوروبا بالذات إلى موسيقى الجاز كتعبير عن الحداثة والمساواة والتحرر، لكن البعض اعتبره تجسيدا لنوع من الغزو الثقافي الأمريكي وترافق ذلك مع صعود المشاعر العنصرية ضد السود عموما والأمريكيين السود علي وجه الخصوص. لم يكن المجتمع الألماني نفسه في العشرينات والثلاثينات متسامحا مع السود فقد كانت النوادي الموسيقية للطلبة ترفض تماما عضوية السود والملونين أوالمتزوجين من سود أو ملونين في نواديهم، ومن ثم فكان غالبية موسيقيي الجاز من البيض الألمان أو الأوروبيين أو اليهود.



والبعض يعتبر أن السبب الخفي لموجة العداء للجاز كان في الأساس هو معاداة الحداثة، فمعظم التقليديين المحافظين من متقاعدي الحرب العالمية الأولى  التي هُزمت فيها ألمانيا كانوا يبحثون عن العظمة الألمانية مرة أخرى في الماضي الألماني، ما وّلد لديهم رفضا شديدا لأي وجه من أوجه الحداثة سواء في الموسيقى أو الأفكار التي يقدمها الجاز وزاد عداؤهم للسود والملونين واليهود من حدة ذلك، ما جعل هذه الأفكار شديدة الانتشار في الحزب النازي ثم مسيطرة عليه.


ولم يكن هتلر نفسه مولعا بأية تيارات تجديدية أو حداثية في الفنون والآداب فقد كان مغرما بموسيقى فاجنر الفخمة، وفي برنامج الحزب النازي عام 1920م سعى هتلر (لحماية الثقافة لألمانية) بتهديد برنامج الحزب بأنه يسعى لفرض قوانين حكومية لمواجهة هذه الميول التجديدية في الفنون والآداب.


اقرأ أيضا: 70 عام على وفاة هتلر



حتى عام 1935م كان  جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي لايزال يأمل  في إقناع الجمهور بالابتعاد عن الجاز عن طريق الدعاية المضادة له كبديل عن  حظره قانونا. ولكن في النهاية تم حظر الجاز رسميا في عام 1935م وفي نفس العام أصدرت الحكومة النازية قرارها بعدم السماح للموسيقيين الألمان من أصل يهودي بالعزف بعد ذلك داخل ألمانيا، ما جعل غالية هؤلاء يضطرون إلى مغادرة البلاد إلى المنفى، فيما انتحر آخرون، ووجه هذا ضربة إضافية لموسيقى الجاز الألمانية.



في بداية الثلاثينات كان الموسيقيون المحافظون الألمان المعتادون على السيمفونيات الأوروبية وكذلك النقاد ينظرون باحتقار شديد إلى الجاز كمنتج من  منتجات (ثقافة الزنوج )، بل إن أحد النقاد ذهب إلى حد اعتبار الجاز  مجرد "ضجيج زنجي" ليس له إلا غرض واحد هو: "إدخال المجون والبذاءات إلى  المجتمع"، بل وتم اعتباره نقيضا للأخلاق والجماليات وللقيم العليا الألمانية.


في عام 1931م واجه موسيقيو الجاز الأجانب موجة شديدة من العداء داخل ألمانيا، فغادر ألمانيا كثير من الموسيقيين البريطانيين والأمريكيين وأيد  الألمان المتخصصون في الموسيقى والنقاد والإعلاميين بشدة تصعيد الإجراءات ضد الجاز.


هكذا بدأ حظر بث موسيقى الجاز في الإذاعة الألمانية والأسباب عموما وراء هذا القرار كانت أولها جذوره الأفريقية التي كان النظام النازي ينظر إليها باعتبارها سبة، لأن الأفارقة السود من أقل الشعوب علي سلم تراتبية الشعوب والتي يقف علي رأسها الألمان من وجهة نظر النازيين، والسبب الثاني أن الكثير من عازفي الجاز النشطاء كانوا من اليهود، أما السبب الأخير فكان أن المواضيع التي تغطيها موسيقى الجاز تتضمن قيم الحرية والفردانية التي يعاديها النظام النازي الشمولي، بل وأذيع برنامج للهجوم على الجاز.


ويظهر من هذا الملصق الدعائي كيف تم تصوير الجاز بشكل عنصري معادي للسود واليهود معا.



وبدءا من عام 1937م أصبح محظورا على الموسيقيين الأمريكيين عبور الحدود الألمانية، في حين تم السماح بشراء أسطوانات موسيقى الجاز من المتاجر في المدن الكبرى.


ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م، أصبح الاستماع للإذاعات الأجنبية محظورا ومجرما قانونا، ومُنع رسميا الاستماع للجاز وتجريمه، باستثناء بعض الأغاني التي حُولت إلى الألمانية بشكل معين في الإذاعات الموجهة بحيث تتضمن تحقيرا لأمريكا وبريطانيا وتمجيدا للجيش النازي.


ولكن وضع النازيين تحرك نحو الأسوأ نتيجة احتلالهم لأراضي دول أوروبية أخرى، إضافة للنمسا وتشيكوسلوفاكيا كبولندا 1939م  والدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا ولوكسبورج وفرنسا عام 1940م والاتحاد السوفيتي عام 1941م، فقد كان كثير من أفراد الشعوب المحتلة يحبون الجاز، وزادت الأمور سوءا مع دخول الولايات المتحدة "أصل الجاز" الحرب ضد ألمانيا أواخر عام 1941م، فبدأت السلطات الألمانية تشوش على إرسال الإذاعات الأجنبية التي تبث موسيقي الجاز.



في النهاية نشأت حركة مقاومة من الأطفال والشباب تحت سن العشرين الذين قرروا تحدي السلطات الألمانية بتكوين تنظيم سري للاستماع لموسيقى الجاز  باسم "أطفال سوينج  swing kids" أو بالألمانية Swing-Jugend، كان هؤلاء الشباب يرقصون ويغنون على إيقاعات الجاز ويلبسون ثيابا لا تتفق مع الشبيبة الهتلرية، وردت عليهم السلطات النازية باعتقال كل من استطاعت الوصول إليه منهم وإرساله إلى معسكرات الاعتقال (concentration camps).   



وقد خلد فيلم أمريكي من إنتاج عام 1993م باسم (swing kids) قصة هؤلاء الأطفال  ومأساتهم.



وفي العامين الأخيرين لحكمه 1943-1945م توحش النظام النازي ضد أي شخص له صلة من قريب أو بعيد بموسيقى الجاز، فتم نقل العشرات إلى معسكرات الاعتقال؛ حيث مات بعضهم، كما كانوا مكلفين بالعزف في عرف الإعدام بالغاز ومن أبرزهم عازف الجيتار كوكو شومان الذي اعتقل فترة طويلة داخل المعسكرات النازية ليصبح بعدها أحد العازفين داخل غرف الإعدام.



 والفيلم الوثائقي  (موسيقي السوينج تحت الصليب المعقوف) أو (Swing Under the Swastika) الذي ظهر عام 1988م، يحكي قصصا لتلك الفترة من تاريخ موسيقى الجاز في ألمانيا وشهادات لبعض الضحايا.



واليوم وبعد كل هذه المعاناة يحتفل العالم بيوم الجاز العالمي يوم 30 أبريل  من كل عام والذي هو، بالصدف، يوم انتحار رأس النظام النازي أدولف هتلر الذي انتحر مع إيفا براون يوم 30 أبريل 1945م قبل ساعات من انتحار وزير دعايته جوزيف جوبلز وزوجته ماجدا جوبلز بعد قتلهم لأطفالهم الستة في 1 مايو 1945.