تسعين مليون بنفس واحد
جميعنا يعرف ويعترف بأن الشعب المصريّ "شعبٌ عاطفي"، وتُعتبر هذه الصفة هي الشائعة المنتشرة والمزروعة والمؤثرة في قلوب 90 مليون مصري[1]، جميعهم مُقتنع بأنه عاطفيّ والعاطفة تسوقه وتؤثر على جميع مُجريات حياته، ولا نُنكر أن هذا مُرسّخٌ في أذهاننا جميعًا.
وبالطبع كونك عاطفيًا فهذا لا يعيبك ولكن.. هل يُعقل أن يكون 90 مليون نسمة بنفس ذات الطبع؟
دعك من هذا ودعنا نتخيل ماذا لو أتى أحدهم غدًا صباحًا وكتب على صفحته على "فيس بوك".. #أنا_مصري_عقلاني_مش_عاطفي.
إن ذلك قريب جدًا من المنطق أن يكون وسط هذه الحشود شخصٌ عقلانيّ، ولكن دعنا نُكمل التخيُّل ونزيد عليه أن هذه "Status" قد أذهلت أصدقاءه؛ لما فيها من خروج عن القاعدة المعروفة، وربما وجدها البعض دعوة للتغيير من صورة المصري عربيًا بل وعالميًا، فانطلق الناس بـ "الشير" عشرات بل ومئات وآلاف المرات! وسيصبح "الهاشتاج" علامة مميزة تقودك إلى مواقف مؤيدة ومتحمسة للفكرة، وأخرى مناهضة وتطالب بإحالة هذا الشخص لجهة سيادية لتشويهه سمعة المصريين.
هذا السيناريو، يقابله سيناريو آخر مناقض له تمامًا، أن تُكتَب "Status" فلا يُبادر أحد بـ "اللايك" حتى، وتندثر وسط منشورات "التايم لاين" لصاحبها، ونحافظ على طبيعة المصري العاطفيّ.
منذ يومين وأثناء جولتي الساعية وجدت منشورًا على "فيس بوك" يحول الأفلام المصرية الشهيرة إلى نهايات عادية [2]، بشكل كوميدي جدًا، تختصر علينا الحبكة والدراما و"الأفورة" كما فعل في فيلم أولاد العم عندما يقول دانييل:
- أنا بشتغل ظابط في الموساد واسمي الحقيقي دانييل
فتجيبه منى زكي بسعادة:
إيه ده الله بجد! يعني هنمشي من هنا أخيرًا؟
تخيّل هذه النهاية التي ستختصر علينا مشوارًا طويلاً من الدراما والضرب والقتال ودماء كريم عبد العزيز وشريف منير! بل دعونا نتخيل أكثر هذه النهايات على حياتنا العملية، أن يظهر إسلام البحيري على شاشة التلفزيون ليتفوه بتكذيب الأئمة فنغير المحطة! بدلاً من أن نهاجمه لرفض أفكاره التي ما كانت انتشرت لولا مهاجمته زيادة عن اللزوم.
يدعو شريف الشوباشي الفتيات لنزع الحجاب عبر "تغريدة" على موقع "تويتر" ، فتخيل لو أنك كمتابع له ورافض لفكرة خلع الحجاب تجاهلت هذه "التويتة" أو كرد فعل عاطفي "عملت unfollow"، بدلا من نشرها وتعليقك عليها!
هل الفتيات اللواتي يخلعن الحجاب بحاجة "لعزومة" لكي يفعلوا ذلك؟ أم من وضعنه عن غير اقتناع خوفًا من المجتمع أو من ذويهم، هل ينتظرن الدعوة ليتجرأن على خلعه؟ أم هل المقتنعات بالحجاب سيقنعهن "إغاظة فلان وفلان" فيخلعن الحجاب؟
ولكن دعنا نقول إن سمة الشعب المصري "العاطفي" هي المحرك لكل ذلك، وهي التي تجعلنا نتعاطف بكل جوارحنا بالسلب والإيجاب مع كل القضايا والشخصيات الفقاعية التي تظهر ودون سببٍ مبرر، جميعنا تعاطف مع كلب الهرم تعاطفًا مبالغًا فيه في أيامنا هذه، وجميعنا نسيناه بشكل مفاجئ في اللحظة ذاتها، ومن منا لم يصور "دبسماش"، ثم هجر البرنامج لسبب غير معروف، جميعنا شاهدنا حلقة ريهام سعيد عن الجن و"الناس الملبوسة"، وجميعنا انتفض بعد الحلقة منتقدًا غير مصدقٍ، رغم أننا كان بإمكاننا تجاهلها بضغطة زر واحدة على "الريموت كونترول".
ولكن للإنصاف لم يكن هذا الطبع، ودعوني لا أقول ظاهرة لأنها متأصلة، لم يكن يعود دومًا بالسلب، بل في بعض الأحيان كان يأتي بنتيجة حسنة، حتى وإن لم نقصد، كموجة القراءة التي اجتاحت مصر اجتياحًا عارمًا، وموجة الأنماط الموسيقية الجديدة التي تنتشر يومًا بعد يوم، فتعلي انتشار الثقافة الموسيقية (ما لم نجد في أيامنا القادمة شيخًا يجعل سماع الموسيقى كالفواحش أو أشد إثمًا).
في النهاية دعوني أقول إنني في بعض الأحيان أتخيل أنها قد تكون نظرية المؤامرة، التي تحتذي فكرة أنها أفكار ماسونية لشغل المجتمع المصري عن أموره ووضعه في قوالب جاهزة؛ ليشغل وقته به بدلاً من التفكير في أمور أخرى، فالمصريون قوة بشرية هائلة، لا يمكن السيطرة عليها.. هل تتخيل 90 مليون فكرة؟!
وربما لا تكون ماسونية أو لا تكون خُطة من الأساس، ولكن الأكيد أننا بحاجة للتوقف عن الانسياق وراء الجموع، عن مناقشة المسلّمات، عن الاهتمام بما نريد تجاهله والترفع عن مناقشة الهراء، فإنّ ذلك كله في النهاية يزيد حالة الصخب والجدال وربما الشقاق فيما بيننا، ويظهر ما يجب أن يندثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
[1] - حسب تقرير نُشر في موقع إخباري عالمي شهير أن عدد المصريين وصل إلى 94 مليون بين مصريين في الداخل ومغتربين وهذا يعني بالرجوع إلى أغنية هيفا وهبي "تمانين مليون إحساس" أن عدد المصريين زاد 14 مليون بين الفترة 2010 -2015!
[2] – لصاحبه Amr Halim