التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 01:43 م , بتوقيت القاهرة

القداس الجنائزي لموتسارت.. في وداع رب الموسيقى الصغير

مات عن عمر 35 عاما، بعد أن نجح في إنتاج أكثر من 600 عمل موسيقي ولازال السؤال: ماذا لو عاش أكثر؟


إنه أماديوس موتسارت، الموسيقار الفريد وصاحب المهارة التأليفية المذهلة، الذي رحل تاركا إرثا موسيقيا شاسعا، ولا تزال تكتسب أعماله حضورها رغم تغيّر الزمن ومجيء الكثير من المؤلفين العظام من بعده.


1788


ساءت أحوال موتسارت كثيرا وقلّت ظهوراته على الجمهور. حياته الرغدة السابقة لم تقنعه بضرورة التوفير للأوقات الصعبة المحتملة في قادم الأيام. الحرب التركية النمساوية تندلع، ويقلّ بالنتيجة دعم الطبقة الأرستقراطية للفن والموسيقى.


موتسارت في أزمة مالية ويستدين من أصدقائه، يدخل في شرك اكتئاب عميق وتتراجع حالته الصحية وأيضا معدّل تأليفه الوسيقي، ورغم ذلك يتمكّن من إنجاز سيمفونياته الـ 3 الأخيرة.  


1791


عودة مظفّرة للعبقري الصغير. ينكبّ موتسارت على العمل ويؤلّف أيقونته الأكثر تبجيلا: أوبرا "الناي السحري"، والتي شكّل غناؤها باللغة الألمانية طفرة موسيقية لم يتوقّعها أحد. إلى جانب ذلك يؤلّف، كونشيرتو الكلارينت وكونشيرتو البيانو الأخير، والقدّاس الجنائزي "Requiem " الغير مكتمل.


كان الموت واحدا من مواضيع موتسارت الأثيرة. وفي السنوات الأخيرة من حياته القصيرة قارب موتسارت الموت في أعماله الكثيرة، ربما بسبب الاعتلال الكبير في صحته ابتداء من يوم 6 يونيو 1791، ولكنه تحامل على نفسه، وقاد الأوركسترا في افتتاح أوبرا "الناي السحري"، في 30 من الشهر نفسه. ولكن في الشهور التالية تدهورت صحّته كثيرا وعاني آلاما وأرقا.



القدّاس


هناك حكاية أقرب للأسطورة منها لواقعة حقيقية، ولكنها تظلّ المصدر الرئيسي في كافة الروايات وراء قصة ذلك العمل. تقول الحكاية إن زائرا غريبا أتى إلى موتسارت في منزله بعرض مالي مغر، مقابل أن يؤلّف موتسارت لصالحه "القدّاس الجنائزي"، وقبل موتسارت الطلب وشروط الرجل بألا ينسب إليه العمل وألا يسأل عن المستفيد من القدّاس.


من ناحية تاريخية ساد اعتقاد لبعض الوقت أن الرجل المجهول هو المؤلف أنطونيو ساليري، والذي كان حاقدا على عبقريته، واستغل المخرج ميلوش فورمان ذلك الاعتقاد في فيلمه "Amadeus, 1984"، ولكن ثبت بعد ذلك أن ذلك المجهول لم يكن سوى عازف تشيللو، أرسله الكونت فون فالزيج، الذي كان قد فقد زوجته قبل أشهر، وأراد الادعاء بتأليف ذلك القدّاس الجنائزي تكريما لها.


كأن القدر أرسل إلى موتسارت إشارة لكتابة جنّازته بنفسه، وفي الوقت نفسه لم يمهله وقتا لإنجازها. مقاطع القدّاس تسير في تسلسل نغمي تصاعدي متوافق مع الرحلة الدقيقة التي يقوم بها الميت الصاعد لملاقاة ربه، بدءا بطلب الراحة ورجاء الرحمة وتخيّل قيامته ووقوفه الخاضع بين يدي الرب والتذلّل في حضرته والتذكير بامكانية العفو والرأفة، وصولا إلى دموع الميت في لفظه اسم الربّ.


نغمات قلب نازف في حدسه باقتراب موعد رحيله النهائي إلا ما لا يعرفه، تصاحبه جوقة أصوات طالبة الراحة الأبدية للموتى. تتعالى الأصوات في مناجاتها المتوسّلة للربّ، وتتداخل الأصوات الحادة بالغليظة، التشيللو بالوتريات، والسوبرانو بالتينور. مثلما تداخل المشاعر المتنافرة من الحزن الشديد والقلق والترقب والارتباك واليأس.



حين بدأ موتسارت تأليف القدّاس كان قد أصابه مرض شديد، الأمر الذي زاد من شعوره بأنه يكتب رثاؤه الشخصي، وربما ذلك ما يفسّر السوداوية الشديدة للمقطوعة. وبسبب مرضه الشديد لم يعد باستطاعته الكتابة فكان يتلو على تلميذه، إكسافر سوسماير، المقطع تلو الآخر إلى أن توفي قبل إكمال القدّاس.


وأوصى موتسارت سوسماير بإكماله لاحقا. حين يقف فالزيج –وهو يقود الأوركسترا- لإكمال كذبة ادعاؤه بتأليف القدّاس، سيتهامس الحضور فيما بينهم "هذه موسيقى موتسارت".


في الواحدة صباحا من يوم 5 ديسمبر عام 1791، فارق موتسارت الحياة. ودفن في مقبرة سانت ماركس، بإحدى ضواحي فيينا، ولم يكن المشهد الأخير في حياته مثاليا، إذ وافق يوم جنازته طقس عاصف فلم يحضرها سوى قلّة هزيلة من المشيّعين (من بينهم ساليري وسوسماير) الذين واروا جثمانه في مقبرة خيرية ليرقد في حياته الأخرى مع المنسيين.


الجنازة المتواضعة لموتسارت لا يمكن اعتبارها مقياسا على تأثيره أو شعبيته في زمنه، فكانت حفلات تأبينه التي أقيمت في مدن النمسا مكتملة الحضور، وبعد وفاته ازدادت تللك الشعبية على نطاق واسع، حتى صار اسم موتسارت الآن علامة لا تحتاج لتعريف.
 


استمع إلى القدّاس الجنائزي كاملا بأداء أوركسترا سيمون بوليفار السيمفوني.