التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 01:22 م , بتوقيت القاهرة

أبو نواس.. ساقي الشعر

حُرّم ومُجّد الخمر منذ القدم، ولكن ظلّ وجوده حاضرا في احتفالات الكثيرين، وحتى اليوم، على تنوع أصنافه ومذاقاته، ما زالت زينة المائدة. يتجادلون في حلاله وحرامه، يملؤون ساعات الإرسال ويهيلون أحبار الطباعة والكثير من النقرات الإلكترونية، يدخلون في جدالات بيزنطية حوله، كل بحسب معتقده أو اقتناعه. ما زال الخمر خمرا، وما زال الناس ناسا، والشرائع نفسها يتوارثونها من دين إلى دين، مع بعض الاختلافات التي تدّعي التمايز.


وقد قيل في الخمر آلاف وربما ملايين الأبيات والقصائد الشعرية في كل لغات العالم، وفي "الخمريات العربية" لم يعرف الناس شاعرا قال في الخمر أكثر وأجمل مما قال أبونواس. الذي قال: "الخمر ثلاثة عناقيد: عنقودُ التذاذ، وعنقودُ سُكرٍ، وعنقودُ عربدة".


هو الحسن بن هانئ الحكمي الدمشقي، من أشهر شعراء العصر العباسي. وعرف بـ"شاعر الخمر"، رغم أشعار أخرى له في الزهد. ويعتبره الكثيرون من مؤرخي الأدب أكثر شعراء العرب هوسا ومجونا، وكان رغم مخالفاته المتكررة للشريعة الإسلامية، يتمتع بمكانة خاصة لدى الخلفاء العباسيين في زمانه.


"الخمريات" تسمية تُطلق على الأشعار التي تتناول عالم الشراب، بدءا بالخمر وأوصافه، مرورا بأوانيه وأشكاله، ورجوعا إلى مواطنه وكرومه ووصفا لمجالسه، وما تضمّه من سُقاة وندمان وغناء ولهو وطرب، وتتبّعا لتأثيره في النفس والجسد، وما يجري في مجالسه من طرائف ولطائف، وطقوس وشعائر، وغير ذلك ممّا جعل القصائد الخمرية أو الأبيات التي تضمّها قصائد الشعر العربي، تحتّل مكانة بارزة في الأدب العربي.


ولاشك في أنّ أبا نواس هو رائد "الشعر الخمري" علي مر العصور، لاتخاذه الخمرة مدخلا إلى عالم السياسة والسعادة والجمال والمعرفة، ومخرجا وحيدا من سجن المجتمع ومأزقه الوجودي.


 بلغت الخمرةُ عند أبونواس مرتبة كبيرة من التعظيم والتقديس، بحيثُ أنّه استطاعَ أن يخلق منها عالما شعريا يجسّد من خلاله طاقته الروحية والإبداعيّة والفكرية، بحيث بيّنتْ خمرته عمق نظرته إلى الحياة والوجود والإنسانية، فخلق بواسطتها عالما جديدا متفّردا بأفكاره وآرائه، وبإمكاننا أن نسمّيه "عالماً نواسيّا". ويمكن التدليل على ذلك ببيت رؤيوي، وغامض يقول فيه:


صفراء تضحك عند المزح من شغب.. كأن أعينها أنصاف أجراس


"خمرته خمرة" يمتزج فيها الإحساس بالفكر والروح، وتذوب فيها النفس شوقا إلى الخلاص من المصائب والآلام. فيها صفات كلّ ما هو جميل ونقّي، تحنّ إلى الصور والأسرار وتتكلّم بالإيحاءات، فهي محرم الأسرار. كما جعلها مرآة يرى من خلالها تحوّلات مجتمعه وتحوّلات العالم وجماله، ووسيلة لثورته وتمردّه على الأعراف الاجتماعية والسنن الشعرية. وأكثر من ذلك، وسيلة لتعامله مع الناس والتعايشُ بينهم.


نقرأ في ديوان أبي نواس لمحات تصور حياته وإدمانه تصويرا جميلا، فقد كان يبيت في الحانة أياما، لا يفعل شيئا سوى الشرب. دخل الحانة مع أصدقائه على أن يبيتوا فيها ليلة. لكن يبدو أن ليلة واحدة لا تكفي، فبقوا يوما ثانيا، ثم طاب بهم المقام، واستقر رأيهم على الإقامة يومين آخرين، فلما مرّا على أحسن ما تمرّ الأيام بالشاربين قالوا نقيم يوما آخر، فلما قضوا اليوم الرابع لم يهن عليهم مفارقتها فأقاموا اليوم الخامس. تلك القصة الطريفة يمكن استنتاجها من البيت التالي، الذي يقول فيه:
 


أقمنا بها يوماً ويومين بعده.. ويوماً له يوم الترحل خامس


وفي بيت آخر يصف ليلة بطولها، شرب فيها ثمانية أقداح في حانة، وانتقل إلى مكان آخر فشرب ثمانية أقداح، ثم خرج يسعى إلى مجلس أنس شرب فيه أربعاً- أي شرب في ليلة واحدة أربعين كأسا- ومن هنا جاءت بطولته في الشراب.


ولقد شربت ثمانياً وثمانيا.. وثمان عشرة واثنتين وأربعا


وقال أيضاً:
دَع المساجد للعباد تسكنها.. وطُف بِنا حول خمارٍ ليسقينا  
ما قال ربك: ويلٌ للذين سَكروا.. ولكن قال: ويلٌ للمصلينا

كذلك قال:
دَع عنكَ لومي فإنَ اللومَ إغراءُ.. وداوني باللتي كانتْ هيَ الداءُ  
صفراءَ لا تنزل الأحزانَ ساحتها.. لو مَسَها حجرٌ مَسَتهُ سراءُ  
رقتْ عن الماءِ حتى ما يلائمها.. لطافة وجفا عن شكلها الماءُ


وحين أدركته الشيخوخة، نصحه أصدقاؤه بالكفّ عن الشراب، فرد عليهم:

قالوا كبرت: فقلت ما كبرت يدي.. عن أن تسير إلى فمي بالكاس
 



ومما ذكره ابن منظور، صاحب لسان العرب في كتابه "أخبار أبي نواس": "الأمين اصطبح يوما مع ندمائه وأبو نواس عنده فقال: نريد أن نشرب اليوم كلنا لننظر أينا أجود شربا، ولأجود القوم شربا حكمه، فلم يزالوا يشربون إلى نصف الليل، ثم هوّم القوم سكرا – أي نعسوا – وبقي الأمين وأبو نواس وكوثر يشربون، ثم نام الأمين وكوثر. وبقي أبو نواس وحده، فلما لم يجد له مساعدا أغفى غفوة ثم انتبه ووضع الشراب بين يديه. ثم قام إلى الندماء يحركهم واحدا واحدا ليشربوا معه، فوجدهم موتى لا حراك بهم، فقال: ليس إلا محمد – يريد الأمين – فجاء إلى مرقده وصاح به: يا سيدي. يا أمير المؤمنين، ليس هذا من الإنصاف، نحن نشرب وأنت نائم".


فانتبه الأمين وقعد يشرب معه وهو يقول له: ويلك ألست من الناس؟ لا تنام مع ما قد شربت!
فقال أبو نواس: يا سيدي أليست لذة الشراب تقوم مقام النوم؟
فشربا باقي ليلتهما، وكأنه كان يتمثل بقول يزيد بن معاوية:
وهبت النوم للنوام إشفاقا على عمري
وأفنيت سواد الليل باللذات والخمر
فما أعرف طعم النوم إلا ساعة السكر
ثم أراد الأمين أن ينام بعد أن سكر، فقال أبونواس: على رسلك. ثم أنشده أبياتا نفحه الأمين من أجلها ألف درهم، ومثلها من أجل ما شرب.


أما أشهر أشعار أبو نواس في الخمر فكانت:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ … ولا تسقني سِراً إذا أمكن الجهرُ  
وبُح بإسمِ من تهوى ودَعني من الكِنى … فلا خيرٌ في اللذاتِ مِن دونِها سِترُ
فعيشُ الفتى في سكرةٍ بعد سُكرة … فإن طال هذا عندهُ، قصر العمرُ
وما الغُبنُ إلا أن تراني صاحياً … وما الغُنمُ إلا أن يُتعتعني السُكرُ


وقدّم المطرب الجزائري رشيد طه معالجة موسيقية جريئة لتلك الأبيات في أغنيته الشهيرة Indie، من ألبوم Carte Blanche في عام 1997.