التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:36 م , بتوقيت القاهرة

وزير الأضاحيك

أينما ذهب وزير الثقافة الجديد فإنه يشيع المرح وينشر السرور والحبور.. فتعم البهجة وسط الحضور.. وتفوح روائح أزاهير السعادة بين الموجودين.. فلديه مقدرة فائقة على صياغة الأطروفة الذكية.. وخلق المفارقة الكوميدية.. وإبداع كل فنون الضحك الراقية والصافية دونما ترخص أو إسفاف أو سطحية أو تبذل.. وهو يدرك جيدًا أننا بحاجة ماسة إلى التسرية عن النفس المكدودة في زمن يضن علينا ولو بفرحة عابرة أو ابتسامه شاحبة.

والأيام التي كانت مليئة بالنكات ولت.. والرسوم الكاريكاتورية الساخرة شحت.. فعبثية واقع مثقل بالهموم والكوارث والأزمات والعنف والدماء أثقل وأكبر من قدرة المضحكين والمرفهين والمهرجين وممثلي الهزليات والملاهي وصاروخ النكتة الذي مات.. فأخذ على عاتقه أن يلعب دورًا ترفيهيًا إنسانيًا.. يعالج فيه اكتئابًا وقنوطًا.. ويأسنا وهواننا.. وها هو يتفكه في اجتماعه مع المثقفين فيبادرهم بخفة ظل بادية.. وتهكم عميق الدلالة يتناسب ومكانة المفكرين والأدباء والمثقفين الكبار الذين يحاورونه.. قال لا فض فوه ببلاغة آسرة: هو أنتم فاكرين إيه؟!.. الثقافة مش محشي واحشي وأغرف!!

إنه هنا يخلط السخرية بالتقريع.. والظرف بالحكمة.. والمعاصرة بالفلكلور.. والوسيلة بالهدف.. والشكل بالمضمون.. والإطار بالمحتوى.. والهزل بالجد.. ويحقق مقولة الجبرتي في المصريين أنهم "شعب يعشق الترهات".

ثم ها هو في زيارته لمتحف الفنان التشكيلي الكبير الراحل "محمود سعيد" بالإسكندرية يواصل رسالته النهضوية ومشروعه الثقافي التنويري.. وكان استهلاله سؤال أمينة المتحف "عزة عبد المنعم" عن المشكلات التي يعاني منها القائمون على المتحف للمبادرة بحلها، فأخبرته أن عدد العاملين بالمتحف قليل.. كما أن لديهم مشكلة مع بيروقراطية العمل فيما يتصل بعدم صرف علاوة الماجستير الخاصة.. وعرضت عليه مجموعة من الأفكار منها إقامة ورش فنية ودورات تدريبية للأطفال.. فإذا به يهتف مفاجئًا أنا عندي مشكلة في التعامل مع "التخان" ولازم تخسي وعلشان ده يحصل عاوزك تلفي المتحف ده كل يوم (20) مرة.. وتطلعي وتنزلي السلم كل يوم عشرين مرة برضه. 

وكما يحدث عادة في مثل هذه المواقف أن ينافق المحيطون من الموظفين المسؤول.. ضحك الجميع في استحسان لتريقة الوزير، وقالت مديرة المركز مؤازرة لطفه ورهافة حسه ورقة مشاعره وإنسانيته الفياضة.. مخاطبة "عزة" "أوعي تكوني جايبة بطاطس محمرة جوة"، مما أدى إلى تصاعد ضحك الموظفين ورجال الأمن.. والأمن الخاص بالوزير.. وحسب تعبير "عزة" أكدت: "كنت تسلية الناس اللي واقفين كلهم.. إنها إهانة شخصية لن أتنازل عنها إلا باعتذار الوزير علنًا.. مثلما أضحكهم عليّ علنًا.. فكرامتي أهم من وظيفتي.

أُسقط في يد الوزير فاتصل بها تليفونيًا بعد انصرافه مبررًا مؤكدًا أنه لا يقصد الإهانة ولكن تلطيف الجو لأنه لاحظ توتر العاملين أثناء الزيارة، فقام بدوره الكوميدي في الوقت المناسب.. وما الدنيا إلى "شوية أفيهات" لكن "عزة" رفضت الاعتذار التليفوني مصرة على مطالبته بتقديم اعتذار رسمي ونشره في وسائل الإعلام ناهيك عن إقامة دعوى قضائية ضده مطالبة بالتعويض المادي عن إهانته لها.

الواقعة المؤسفة التي تعكس استهزاء الوزير من الفتاة تدينه كوزير فكر وتنوير في دولة تخلفت وتعاني من ردة حضارية.. فإذا به تسيطر عليه فكرة العنصرية.. ويفتقد المبادئ البسيطة للياقة والكياسة ويقدم مثالاً سيئاً للفظاظة والغلظة في التعامل الإنساني.

وكان أولى به أن يشغل وقته المهدر في الهذر بدراسة المنظومة الثقافية الجديدة التي تقدم بها د." جابر عصفور الوزير السابق للثقافة لرئيس الوزراء.. بالإضافة إلى مشروع إعادة هيكلة لقطاعات وهيئات وزارة الثقافة كي تدخل العصر الجديد الذي نعيشه.. ومتابعة تجهيز متحف "جمال عبد الناصر" لافتتاحه في موعده القادم مع احتفالات ثورة يوليو.. وتكريس خطاب ثقافي وإبداعي حر يواجه ثقافة "الحرام والحلال" المتفشية وتحريم وتجريم وإرهاب عقول تنتسب إلى ظلام العصور الوسطى.