التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:37 م , بتوقيت القاهرة

زهرة.. "نجلاء فتحي"

آثرت الانسحاب على الأضواء في هدوء.. حاولت كما حاول غيري من المقربين لها أن يثنوها عن ذلك القرار الصعب دون جدوى فقد أدركت أن الزمن لم يعد زمنها.. القبح والفظاظة والغلظة والتوحش صاروا عناوين سينما تحاكي واقعا دميما يخاصم الجمال.. ومجونا وعنفا وإرهابا يعادون براءة كانت تزينها.. ورومانسية نسجت منها عالما رقيقا وشفافا يفيض بقصص حب واعدة بأحلام وردية وكنوز مَخْبُوءة من مشاعر راقية وبهجة باقية.


عرفتها منذ التسعينيات وهي في أوج عطائها الفياض، تشرق بابتسامتها الخلابة فتكشف عن نفسٍ صافية تحتضن الحياة وتحتوي الأحباء، وتكشف عن سِنة فارقة قليلاً عن بقية أسنانها في تمرد عفوي تركتها بلا إصلاح لتزيد جاذبيتها وتعلن عن بساطتها وكراهيتها للتكلف.


والادعاء أنها النجمة الوحيدة التي عرفتها عن قرب تتنكر لنجوميتها وتدفع عن بشرتها شر المساحيق وزيف الأقنعة.. فهي لا تجلس أمام مرآة.. ولا تدخل غرف المكياج ولا تصفيف الشعر.. ولا سهرات الصخب والنميمة، فتنام في مواعيد نوم الأطفال وتستيقظ مع العصافير في الفجر.


جرب أن تطرق بابها سواء كنت على موعد معها أو غامرت بالاقتحام المفاجئ أو حماقة التطفل.. سوف يُبهرك أن تجدها قد فتحت لك الباب في الحال بنفسها.. واستقبلتك ببِشر وترحاب وبادرتك بخبر سار يشرح لك صدرك.. وإذا ما انصرفت وقد نسيت شيئاً.. حافظة صغيرة أو بلوك نوت أو قلما أو مفتاح سيارتك.. سوف تفاجئ بها وقد اندفعت إلى شرفة منزلها.. تصفر لك في شقاوة مراهق نزق أو تلقائية بنت بلد جدعة.. وتلقي إليك بما نسيته.. وهي تضحك في مرح خلاب لتعثرك في التقاطه.


سألتها ذات مرة: أراك تتسامحين كثيرا مع من أساءوا إليك.. أو تحالفوا ضدك دون سبب غير غيرة حمقاء أو حقد دفين.. كيف تقدرين على ذلك ولستِ مسيحا يغفر الخطايا؟!


فبادرتني بحكمة وذكاء وطيبة: 
إني أشفق على نفسي من تجربة كراهية أخسر بسببها صفاء نفسي فأكدر روحي وأرهق عقلي.. وأوجع قلبي.. إني ألتمس الأعذار للآخر.. وأقنع نفسي بها حتى لو كانت أعذارا واهية حتى أنعم بالسكينة وأستطيع النوم.


بعد أن ودعت أدوار فتاة الأحلام الهائمة والحبيبة العاصية خوفا من الزلل أو العشيقة الولهة الذائبة في بحر الحب دون رُخصٍ أو ابتذال.. أو الأرستقراطية اللاهية.. انتقلت إلى مرحلة أكثر نضجا وقربا من إلحاحات واقع اجتماعي مُثقل بهموم ويعاني البشر فيه من إشكالات قاهرة وظروف معيشية طاحنة.


جسدت من تأليفي بطولة فيلم "اللص" إخراج "سعد عرفة" .. فتخلت تماما عن جمالها وأرستقراطيتها وأناقتها من أجل أن تقدم شخصية امرأة فقيرة مطحونة تنتمي إلى طبقة شعبية تعاني من الظلم والقهر الاجتماعي.. أحبت لصاً أنقذها من براثن زوج بشع يسرق الجنيهات القليلة من حصاد عملها كخادمة.. ويساوم حبيبها على شراء أطفالهما في مقابل طلاقها.. فأجادت التقمص.. وبرعت في تجسيد ملامح الشخصية النفسية والاجتماعية.. وانطلقت بعدها لتبدع أدواراً لا تنسى في "أحلام هند وكاميليا" و"سوبر ماركت" ( وهو ضمن القائمة الذهبية التي تضم أفضل مائة فيلم مصري) وتحت الصفر – "ديسكو .. ديسكو".. – "اشتباه" – "الجراج" – "كونشرتو درب سعادة".


وتضم القائمة في مراحل سابقة (الشريدة – لعدم كفاية الأدلة – عفواً أيها القانون – دمي ودموعي وابتسامتي – حب وكبرياء – أنف وثلاث عيون – بدور – الوفاء العظيم – أختي – العاطفة والجسد – لا يا من كنت حبيبي – أقوى من الأيام – سنة أولى حب) .


إنها جميلة الجميلات.. وردة البساتين.. عيون البنفسج.. أو زهرة كما نحب أن نناديها "نجلاء فتحي".


هي الآن بـ "عافية" تقاوم مرضا لعينا في صمت وشجاعة وكبرياء زهرة اللوتس التي لا تنحني.. وأنا أثق أن رحيق عطرها الفواح المحب للحياة سوف يجتاز المحنة.. كما أثق أن دعواتنا لها بالشفاء سوف تصل إلى إله السموات والأرض. 
فيارب.. مد لها يدك.. أرجوك.. مدها ولا تخذلنا.