التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:57 م , بتوقيت القاهرة

حبس العاهرة لا يُطهر المجتمع

حين يسألونك لماذا تبكي وتنتحب الكوميديا في السينما المصرية والدراما التلفزيونية حزنًا على ما آل إليه مستواها الفني من تدهور، فغلبت عليها السطحية والتفاهة بانحدارها المؤسف نحو التهريج الرخيص والإسفاف والفجاجة اللفظية؟ فقل لهم بثقة إن الأسباب كثيرة.. لكن أهمها على الإطلاق أن مفارقات الواقع المعاش الآن أقوى وأعلى وأعمق وأكثر دلالة وغرابة وجموحًا وعبثًا ولا معقولية من خيال مؤلفي الكوميديا.


والمفارقة هي العنصر الرئيسي والأساسي في بناء الدراما الكوميدية، التي تتعدد أشكالها وتتنوع إلى كوميديا الموقف.. وكوميديا الموضوع وكوميديا الفكرة وكوميديا الشخصيات.. وكوميديا الفارس والكوميديا السوداء وهي مزيج من الملهاة والمأساة والتي تجمع بين مخاطبة العقل.. وبين إثارة الوجدان والعاطفة.. إلخ.


ولكن رغم هذا التعدد والتنوع تتجمع كل أشكال الكوميديا.. تحت مظلة المفارقة.


من أغرب مفارقات الواقع الاجتماعي، استلفتني رصد الكاتب الصحفي د."محمود خليل" في عموده اليومي بجريدة "الوطن" لواقعة مدهشة عن خمسة أشخاص أبرموا اتفاقًا مع سيدة بائسة لممارسة الرذيلة مقابل عشرة جنيهات لكل "نفر".. وبعد أن قضوا متعتهم الحرام تهربوا من سداد المقابل المتفق عليه فما كان منها إلا أنها أبلغت الشرطة.. فتم تحويل الموضوع إلى النيابة التي بادرت باستدعاء الأشخاص الخمسة فتم التصالح بين الطرفين بعد أن قام كل من الخمسة بدفع العشرة جنيهات.. ثم تم إخلاء سبيل الجميع.. السيدة وراغبي المتعة.. يقول د. "محمود خليل" إنه لا يحكي فيلمًا عربيًا.. بل هي واقعة حقيقية شهدتها منطقة (منية النصر) بجمهورية "مصر" المحروسة.


وغني عن الذكر أن وكيل النيابة في استجوابه للسيدة، عرف أنها ربة منزل اضطرت إلى ممارسة الرذيلة مقابل هذه الجنيهات المعدودة؛ بسبب ظروفها المادية الطاحنة بعد حبس زوجها.. فإذا كانت بداية الفقر (دعارة) فإن نهايته – في الأغلب – هي القتل .. ولو كان الفقر رجلاً لقتلته.


إن وكيل النيابة في إدراكه أن الظروف المادية القاهرة نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة هي التي أدت إلى جريمة "البغاء" لامرأة تعسة لا تبحث عن ثراء سريع عن طريق الاتجار بجسدها .. بل عن قوت يومها مثلها مثل (نفيسة) في رواية "نجيب محفوظ" "بداية ونهاية"، والتي جسدتها في الفيلم الذي أخرجه "صلاح أبو سيف" الرائعة "سناء جميل"، فأدته ببراعة غير مسبوقة فاستولت على جماع المشاعر والقلوب.


لا يوجد لدى وكيل النيابة سند قانوني يُبرئ الجانية.. وقول المسيح المأثور "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" ليس قانونًا مدنيًا.. كما لا يوجد مبرر أخلاقي يمكن أن يستند عليه، حيث إن الأخلاق لا تتجزأ ولا يجوز تجاوزها.. لكن الحقيقة أيضًا أن العقوبة أسهل من إيجاد الحلول.. فحبس العاهرة لا يصلح الاقتصاد ولا يُطهر المجتمع.. والعدالة الاجتماعية تحتاج إلى معجزة.. وليس إلى ثورة.. ومن ثم كان قراره الإفراج عنها وإجراء المصالحة فانتصر للتعاطف الإنساني مع البائسة.


وانتصر أيضًا للمفارقة التي يبحث عنها مؤلفو الكوميديا ولا يجدونها.