إنها تريد أن تخطف الأضواء مني
هزتني بعنف تلك المقالة الفياضة بالأسى الإنساني الشفيف التي كتبها المفكر الكبير "د.جلال أمين" مؤخرًا في الشروق بعنوان "قصص على هامش السيرة الذاتية".
وهي وإن كان عنوانها لا يكشف عن أكثر من رغبة في الحكي عن بعض حصيلته من القصص والحكايات، التي أثرت في نفسه تأثيرًا قويًا على مدى عمره المديد الغني بالقصص والنوادر والمواقف والتفاصيل التي يتذكرها دائماً ولا تنمحي من الذاكرة.. إلا إنها في حقيقة الأمر لا تُمثل شأنًا خاصًا لا يمتد خارج نفسه.. أو لا يخص غيره.. بل إن تلك التفاصيل تشمل أبعادًا نفسية بالغة الغور.. ورؤى فلسفية عميقة المغزى.
ومنذ أن وقعت عيناي على السطور الأولى من المقال شعرتُ أن ما يسرده أحسه ويمثلني ويعبر عن ذاتي كما يعبر عن ذاته.. وأنه من خلال التفاصيل الصغيرة الخاصة يمكن للكاتب الكبير أن يبني عوالم رحبة تشي بمعانٍ كبيرة تشمل الإنسانية كلها.. وتقترب كثيرًاً من لمس ألغاز لا نملك فك شفراتها تخص النفس الإنسانية .. بنوازعها الغريبة.. ودوافعها الغامضة.
مدخل المقال.. أو ما يسمى في الدراما بالمقدمة المنطقية.. يتحدث فيه "د.جلال أمين" عن أن زوجته وأولاده قد لاحظوا عليه مع تقدمه في السن أنه يعود المرة بعد الأخرى إلى تكرار وصف حادث حدث له واعتبره طريفًا أو جملة بليغة قرأها في كتاب أو سمعها من شخص ما.. وأعجبته.. أو إلى وصف منظر في فيلم أو مسرحية أثر في نفسه.. وأحياناً إلى تكرار نكتة قديمة سمعوها منه من قبل أكثر من مرة.
لاحظوا أيضاً أنه لا يبدو عليه أي خجل عندما يتبين من تعبيرات وجوههم أو حتى مما يقولونه صراحة أنهم سبق لهم سماع هذا عدة مرات من قبل.. بل قد يضحك أو يستمر لإكمال ما بدأه.. وكأنه يريد أن يروي الحادث أو القصة لنفسه لا لهم.. وقد يتحول الأمر إلى ضحك متبادل بينه وبينهم .. ليس بسبب طرافة القصة بل بسبب إصراره على حكايتها من جديد رغم كل شيء.
يقول في ذلك "د.جلال أمين": وأظن أن هذه الرغبة القوية التي تدفعني إلى تكرار الحكاية لأسرتي هو شعوري بأن لكل حكاية مغزى عام من المفيد إدراكه وتأمله.. وقد يتعلق بشخصية مهمة ومعروفة.. ويلقي ضوءاً جديداً عليها.. بل يزداد شعوري قوة مع مرور الوقت بأن عدم تدوين ذلك ونشره قد يكون ذنباً لا يغتفر.
أنا أيضاً يحدث لي ذلك.. أكرر على مسامع أسرتي الأطروفة أو الحكمة أو الموقف أو المفارقة الكوميدية.. أو الحدث الذي سبق أن عشته.. لكن ربما مع فارق بسيط أني أجتهد بقدر استطاعتي أن يبدو الأداء مختلفاً في كل مرة .. مع الاحتفاظ بكل التفاصيل.
وكأني ممثل مسرحي يسعى إلى التجديد والابتكار رغبة في أن يظل محتفظاً بشغف المتلقى.. يشده إلى مناطق إبداع متنوعة تُبعد عن نفسه الإحساس بالملل أو الرتابة.. مع أنه يدرك أن هذا المتلقي لا يحضر العرض كل ليلة ليتابع هذا التطور في الأداء ويستمتع بتنوعه..
ومن هنا فإن ما ذكره "د.جلال أمين" أنه يريد أن يروي الحادث لنفسه لا لهم.. ينطبق علي أنا أيضاً..أما ما تختلف فيه حالتي عن حالته.. أن المجاملة التي تتمثل في مجاراة أسرته له في الإصغاء.. وتتبادل الضحك والاستمتاع بما يحكيه رغم تكرار حكايته أن هذه المجاملة بدأت في التقلص أحسسته في انصراف إبنتي الأولى إلى العبث بالموبيل والثانية إلى متابعة التلفزيون.
أما زوجتي فقد ابتكرت طريقة طريفة في إيقافي عن الاسترسال.. وهي أن تسرع في منتصف السرد تماماً إلى مقاطعتي وتكملة الموضوع بسرعة والانتهاء منه بجملة قصيرة موجزة.. وتلجأ إلى هذا الأسلوب كثيراً إذا ما ضمتنا جلسة مع الأصدقاء.. وكأنها تشاركني الأداء على المسرح وتريد أن تخطف الأضواء مني.. وتحرق لي المفاجأة التي عادة ما تنتهي بها الحكاية.
ومع تفاقم الأمر في هذا الاتجاه.. عزفت عن لقاء الأصدقاء.. وصرت لا أحدث إلا شخصاً واحداً.. إنه ذلك الذي يجلس في مواجهتي في مرآة حجرة نومي.