التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 01:54 ص , بتوقيت القاهرة

دليلك إلى إفساد الذوق العام.. والخاص أيضا

لأنه في البدء كانت الكلمة، فإن السيناريو هو المسؤول الأول في الأفلام الهابطة عن جريمة إفساد الذوق العام.. والسيناريست هو ذلك الفنان المسؤول عن البناء الدرامي والحوار ورسم الشخصيات وتأليف الأحداث وإنشاء الصراع للفيلم.. ونظرًا لأن البناء الدرامي في هذه الأيام آيل للسقوط..حيث إنه مخالف للمواصفات.


فقد أصبحت مهنة كتابة السيناريو نهبا لقعيدات الشلت وهوانم الطبيخ وكمسارية النقل العام .. وصبيان حيتان المنيا ومشهلتية الجمارك.. لذلك فإن اسم "سيناريجي" المشابه لكلمة "فوريجي" هو أنسب تسمية وأبلغ تعريف لتلك الفئة المنتشرة في بلادنا انتشار فيروس الكبد الوبائي، والتي أتشرف بأن أكون واحداً من أبنائها.. ويسعدني أن ألتقي بكم لكي أنقل لكم خلاصة فكري وتجربتي في إفساد الذوق العام وانتحار الجمال وسيادة القبح .


عدت إلى منزلي وشرعت فورًا في الجلوس إلى مكتبي لكتابة الحلقة التسعين من الجزء العاشر لمسلسل "وآه.. وآه منك يا ملودني"، وما إن بدأت في كتابة المشهد الأول حتى رن جرس التليفون.. وكان المتحدث هو الأستاذ الشهير "حمدي أبو سريع" مخرج الهدم والردم والمقاولات فأخبرني بضرورة التوجه إليه فوراً لأمر مهم .


وفي مكتبه الأنيق استحلفني "أبو سريع" بكل رخيص وغال .. في توسل وذلة أن أنقذه بالشروع فوراً في كتابة سيناريو فلم "ميلودرامي" كوميدي غنائي بوليسي استعراضي، حيث إنه وقع العقد مع المنتج والموزع المعروف "إلياس شمهورش"، الذي كان يرتزق فيما مضى من قراءة الكف وتفسير الأحلام لرواد المقاهي والحانات ثم تلقفته الفضائيات بعد ذلك ليقدم برنامجه الشهير "احلم براحتك" وكون بسببه ثروة طائلة.


 وهو يرغب في أن تكون البطولة لـ.. اللولبية الحسناء "سنية أداب".. ووعد بأن يكون "الأبيج" مغرياً في مقابل الانتهاء من كتابة السيناريو والحوار أمس.


حاولت الاعتراض لضيق الوقت.. لكن "أبو سريع" أجلسني خلف مكتبه، ووضع أمامي رزمة من الأوراق.. وزجاجة ويسكي ومائة ورقة من فئة الخمسين جنيهًا، وأغلق عليّ الباب وانصرف مسرعاً وهو يردد سقع وبيع واقلب وقلب.. وقرب واستقرب واديها ميه تديك طراوة .


بعد الكأس الثالثة اشتعلت أبلاتينة النافوخ.. وتفتق ذهني عن قصة حب عبقرية تجمع بين "إيهاب" الشهير "بعفشة" وهو ميكانيكي شاب آخر العنقود لإخوته العشرين.. وبين طاطا الطالبة بالجامعة الأمريكية وابنة أحد الوزراء، وتبدأ الأحداث برفض الأسطى "إسماعيل كاكا" والد عفشة، الذي يعمل مبلط "سيراميك"، أن يتقدم مع ابنه لطلب يد "طاطا" من والدها، والإصرار على التفريق بينهما.. رغم ترحاب الوزير وحرمه بالعريس اللقطة.


ويهدد عفشة إن هو تزوجها رغمًا عنه أن يقاضيه للفصل بينهما بدعوى عدم التكافؤ في المستوى المادي والاجتماعي بينهما.. بالإضافة إلى حرمانه من الميراث والفيلا الرائعة، والتي كان ينوي أن يهديها له .


يتراجع "عفشة" وهو يتمزق ويتخلى عن "طاطا" التي لا تحتمل الصدمة حينما تكتشف نذالته فتنتحر.. ويصاب والدها بالشلل حزناً على فقدها.. وتفقد أمها بصرها، وتصاب شقيقتها الصغرى "زازا" بالعته الهستيري.. ويتطلب علاجها السفر للخارج.. وهنا.. وهنا فقط يستيقظ ضمير إسماعيل الذي يدرك أنه وراء كل تلك المصائب، فيقرر التكفير عن ذنبه بعلاج "زازا" على نفقته الخاصة، وحينما تعود من رحلة العلاج.. يوافق على زواج ابنه منها، مؤكداً والدموع تذرف من عينيه أن "طاطا" لم تمت فهي حية في "زازا" التي تشبهها شكلاً وروحاً.. وأن الحب يسمو فوق كل الحواجز الطبقية .


شرعت فوراً في كتابة السيناريو والحوار..  وحينما تجاوز الوقت الساعة الثالثة صباحًا كانت الزجاجة قد فرغت وانتهيت من كتابة أكثر من نصف السيناريو.. ورحت في سُبات عميق فوق الأوراق من فرط الإجهاد والمعاناة.


استيقظت مفزوعًا في نحو الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي من تأثير لمبات الإضاءة الحارقة، وأسعدني أن أكتشف أن "أبو سريع" لم يضيع الوقت.. وشرع في تصوير أول مشاهد الفيلم متخذًا من مكتبه ديكوراً لمكتب الوزير .


نجح الفيلم نجاحًا منقطع النظير وحقق إيرادات خيالية، حيث استمر في دور العرض أكثر من عشرين أسبوعًا، وكانت فرحتي لا توصف حينما بادر المنتج بتوقيع عقد احتكار معي لمدة خمسين سنة قادمة وهنأني على إفساد الذوق العام.