استسلم للكحول أو لقسوة الطاغوت الروسي في Leviathan
ربما لا يوجد وسط كل مجتمعات الأرض حاليا، مجتمع مر بأزمات نفسية جماعية تعادل أزمة الروس، مع انهيار الاتحاد السوفيتي رسميا في 25 ديسمبر 1991، وإسدال الستار على أول وأكبر تجربة للنظم والأفكار الاشتراكية، التي لم تُثبت نجاحا حتى الآن.
المخرج الروسي أندريه زنفيايجنتسيف، كان عمره آنذاك 27 عاما فقط، لذا يُمكن اعتباره ضمن الجيل الذي حضر الصدمة في مرحلة الشباب. عاش طفولته ومراهقته في فترة كان لا يزال الدب الروسي فيها يحلُم بالسيادة، وحضر أحلام المجد والانتصار، وشاهد تأثير لحظة إعلان الانكسار، وكل ما تلاها حتى الآن على بلاده.
أول أفلامه The Return عام 2003، أي بعد الحدث بـ 12 عاما كاملا. وحتى الآن وفي فيلمه الروائي الرابع Leviathan المُرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي 2015، لا يزال يتبع نفس الخيط الذي بدأ به. أزمة العائلات الروسية، وتأثير الظروف والتغيرات الاقتصادية الساحق على العلاقات الإنسانية بين أفرادها.
كلمة Leviathan يمكن ترجمتها إلى عدة معان (الطاغوت - السفينة الضخمة - كائن بحرى خرافى مذكور فى التوراة)، لكن أقربها هنا للمقصود كما يتضح من أحد الحوارات المعنى الأخير. رغم هذا فللطاغوت وجود في الفيلم، ويُمثله هنا عمدة فاسد لمدينة ساحلية روسية، مشهورة بانتحار الحيتان على شواطئها، يريد الاستيلاء على أرض مملوكة لـ كوليا. روسي فقير يعمل كفني صيانة سيارات، في ورشة صغيرة ملحقة بمنزله الذي بناه بنفسه على هذه الأرض، ويعول طفل أنجبه من زوجته الأولى، بمشاركة زوجته الثانية ليليا العاملة في تعبئة الأسماك.
كوليا المتواضع يستعين بصديق طفولته ديمتري الذي يعمل كمحام، في محاولة لإنقاذ أرضه بالقانون، لكن قسوة الواقع الفاسد، وزيارة ديمتري القادم من موسكو للأسرة المهددة بالضياع، ستفتح جروحا وإحباطات أخرى على الكل.
العنصر البصري المهيمن منذ اللقطة الافتتاحية للفيلم، وطوال الفيلم هو المكان. زنفيايجنتسيف كمخرج عامة، يملك باستمرار الحس الفني اللازم لنقل سطوة المكان على الشخصيات. أرواح الكل محبوسة ومُحاصرة رغم كل المساحات حولهم. والبحر والمساحات المائية هنا، مصدر كآبة آخر بدلا من أن تكون مصدر بهجة. الإضاءة خافتة والديكورات كلها توحي بتواضع الحال. وفي أغلب اللقطات يترك المخرج شريط الصوت بدون موسيقى تصويرية، تاركا أذن المتفرج تلتحم مع أصوات المكان الطبيعية فقط.
الكآبة واليأس في هيئة وعيون الأبطال أيضا، والمهرب الوحيد لهم باستمرار، وللروس عامة هو الكحول. أو كما يلخص السيناريو الموقف بإسقاط مباشر في أحد المشاهد المستخدمة في الإعلان، عندما يجيب البطل سؤال بائعة عما يريده، بالإجابة الحتمية البائسة الوحيدة (فودكا، هل يُحتمل أن أريد غيرها؟!).
الأداء التمثيلي ممتاز من الكل كعادة أفلام زنفيايجنتسيف، وبالأخص الروسية إيلينا ليادوفا نجمة فيلمه السابق Elena، التي تقدم هنا دور الزوجة. ويظل دور العمدة السمين الفاسد، الذي يظهر في بعض اللقطات مع صورة الرئيس الروسي بوتين خلفه، إسقاطا مباشرا على روسيا الحالية التي اغتالت فيها مصالح السلطة ورجال الأعمال، أرواح البشر من وجهة نظر زنفيايجنتسيف.
لا يجيب الفيلم عن طبيعة الحياة في روسيا قديما قبل الانهيار، وبداية عصر رجال الأعمال والمستثمرين، وقد يكون بطله الطيب كوليا الذي بنى بيتا كاملا، وقهره الفساد والجشع، وأحبطه المقربون منه باستمرار، إشارة على العملاق الروسي الذي سقط لأسباب أقوى منه تتعلق بعيوب وتقصير الآخرين من وجهة نظر زنفيايجنتسيف.
في أحد المشاهد يبحث كوليا يائسا عن بصيص أمل أو راحة نفسية ولو بالهروب للدين، لكن حتى الهروب النفسي مع الأفكار الغيبية، أصبح حلما أصعب من أن يتحقق.
لأسباب قهرية تتعلق بمشاهدة الفيلم البلجيكي Two Days, One Night للأخوين داردين منذ أيام، كانت المقارنة إجبارية. كلاهما عن تأثير سطوة الواقع الرأسمالي السلبي على العلاقات بين البشر، وكلاهما يدين هذا الواقع. كلاهما لا يتحدث عن البديل الذي حقق للمجتمعات ما هو أسوأ وأسوأ. لكن في فيلم داردين كالعادة، يوجد بصيص أمل للحياة متروك للشخصيات، وهو ما يجعله فيلما أكثر قبولا جماهيريا، أما هنا مع زنفيايجنتسيف، فالواقع دائما يسحق الكل حتى النهاية.
Leviathan فيلم آخر جيد وقاس من مخرج متمكن، قد يستنكر البعض قسوته وطبيعته الكئيبة، لكن في النهاية وعلى نفس طريقة إجابة البطل الهارب للفودكا، على سؤال البائعة: (الإحباط، هل يُحتمل أن نرى بعدًا آخر أهم في فيلم عن مجتمع عاش عقودا وعقودا في ظل أفكار اشتراكية؟!).
باختصار:
محطة أخرى جيدة وقاسية من مخرج روسي قدير أسير لإحباطات مجتمعه، مع أداء تمثيلي ممتاز للأبطال. استسلم للكحول، أو لقسوة الواقع، لأنه لا يوجد خيار ثالث في روسيا زنفيايجنتسيف.