التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:38 م , بتوقيت القاهرة

هذه ليلتها فقف يا زمان

في 3 فبراير 1975 كتب بيجل كاربيير في صحفية "لوفيجارو":  رغم أن الأوروبيين لم يفهموا كلماتها إلا أنها وصلت إلى روحهم مباشرة. وكتبت التايمز: رحلت أحد أهم رموز الوجدان العربي الخالدة. كما كتبت الأورو الفرنسية: رحلت من مثلت للعرب ما مثلته إديث بياف للفرنسيين، إلا أن عدد معجبيها أضعاف عدد معجبي إديث بياف. أما صحيفة زيت دويتش سايتونج الألمانية فقد كتبت: إن مشاعر العرب اهتزت من المحيط إلى الخليج. كما كتبت الصحف العربية عن خبر وفاتها في صفحاتها الأولى... بينما سيطر الوجوم على العرب؛ كانوا يعرفون أنهم فقدوا آخر رابط حقيقي بينهم، لقد فقدت مصر هرمها الرابع، وفقد العالم العربي كوكبه المشرق، لقد ماتت أم كلثوم.
ما سر هذا الاهتمام من تلك الصحف العالمية بوفاة أم كلثوم؟ الإجابة لخصها جودون جسكيل حين كتب في مجلة لايف: إن تغييرا يشمل حياة الناس في الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرة في كل شهر، ودائما في العاشرة مساء؛ فالمرور يكاد يتوقف في القاهرة، وفي مقاهي الدار البيضاء تختفي الطاولة، وفي بغداد يترك الأغنياء موائد القمار، أما في السعودية فينزوي الشيوخ داخل خيامهم الضاربة في عمق الصحراء، وكلهم آذان تتركز على إذاعة القاهرة في انتظار أم كلثوم.


التاريخ أيضا وقف مستحيا في 3 فبراير، وتبدو أحداثه في عينيّ حين توضع بجوار وفاة أم كلثوم، كقطيع من الغزلان يقف أسفل زرافة شاهقة.


فما قيمة أن تعترف إسبانيا بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة، في مثل هذا اليوم من عام 1783؟! إن اعتراف الضعيف بالقوي حتى ولو كان أقوى منه قبل ذلك، مجرد تحصيل حاصل. أما توقف حنجرة أم كلثوم عن خلق أغان جديدة، فمعناه زوال رابطة قوية كانت تجمع المحبين ببعضهم.


وما قيمة تأسيس الحزب الشيوعي الفيتنامي في مثل هذا اليوم من عام 1930؟ كم من حزب مثله قد فشل، وكم من بديل غيره يستطيع إدارة دول؛ فقد يكون سهلا إدارة دول ولكن من الصعب جدا إدارة قلوب. وأم كلثوم كانت رئيسا لمجلس إدارة قلوب السواد الأعظم من العرب الذين عايشوها، بل وكثيرون ممن ولدوا بعد مماتها.


 ما الذي حققه ياسر عرفات حين تولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة، في مثل هذا اليوم من عام 1969؟ ياسر عرفات لم يترك فكرا أو نظرية أو خطة في عقول الفلسطينيين يستطيعون من خلالها تحرير بلدهم، أما كل أغنية بل وكل "كوبليه" وإن شئنا كل أنّة أو آهة لأم كلثوم كفيلة بإحداث تغيير في نفوس عشاقها.
ما قيمة مسيرة حزب تكوماه اليميني الإسرائيلي، التي طافت حول أسوار المسجد الأقصى وبمحاذاة أبوابه، في مثل هذا اليوم من عام 2004؟ قد تستطيع إسرائيل أن تقتلع حجرا من مكانه أم تجرح أو تقتل إنسانا بآلتها العسكرية، لكنها لن تستطيع أن تمحي من وجدان العرب والمسلمين رمزية المسجد الأقصى وقداسته بالنسبة لهم. أما أم كلثوم فهي وتر مربوط بقلوب كل محبيها، يتحرك فرحا وحزنا عدوا وحبوا كيفما يحلو لسيدة الغناء العربي. يموت محبون ويأتي غيرهم، والوتر مشدود جاهز للعزف في كل لحظة.


ما الجديد حين تسمع عزيزي القارئ أن البريطانيين استولوا على مدينة "كانو" شمال نيجيريا، في مثل هذا اليوم من عام 1903؟ فكم احتلت بريطانيا مدنا وقرى ودولا ورحلت عنها. أما خبر وفاة أم كلثوم، فلم ولن تسمعه إلا مرة واحدة، فالعالم ليس به سوى قيثارة واحدة للشرق.


هل تشعر عزيزي القارئ بأن فاجعة قد ألمت بالدنيا، حين قررت الولايات المتحدة في مثل هذا اليوم 3 فبراير من عام 1917، قطع علاقاتها مع ألمانيا، بسبب إعلان الأخيرة عن سياسة "حرب الغواصات" غير المحدودة، أثناء الحرب العالمية الأولى؟ قد يثير انتباهك هذا الخبر أو تلك المعلومة، ولكنك بعد دقيقة واحدة ستشعر أن الأمر عادي، فالعالم دائما يتصارع، وتقريبا تمثل الحروب العمود الفقري لكل كتب التاريخ... ولكن كتب التاريخ عزيزي القارئ ليس بها إلا أم كلثوم واحدة.


الفضائيات جعلت العالم لا يعير انتباها للدماء، وأخبار المجازر التي ترتكب في سوريا من قبل الجماعات الإرهابية أو جيش بشار الأسد، لتكرارها اليومي تقريبا... بالتأكيد لو قرأت عزيز القارئ أن في مثل هذا اليوم من عام 2012، ارتكب الجيش السوري مجزرة في حي الخالدية والأحياء المحيطة به في حمص فلن تشعر بجديد، أما لو رأيت أو سمعت أغنية لأم كلثوم فبالتأكيد ستشعر أنك في دنيا أخرى غير التي نعيش بها، دنيا يتناكح فيها الخيال مع الواقع فيصير الواقع زوجة مطيعة للخيال، دنيا همُّ سكانها الوحيد هو الفوز في سباق تقديم المحبة لبعضهم البعض، بل سباق من أجل صياغة هذا الحب في جملة وفي نغمة أفضل. 


أحداث 3 فبراير تقف خجولة مذهولة، فوفاة أم كلثوم أكبر بكثير منها جميعا، لدرجة أن التاريخ كله وقف يغني لأم كلثوم في هذا اليوم "هذه ليلتها فقف يا زمان".