حوار| جبور الدويهي: الموت سلعة عريقة في الصراع السياسي والاجتماعي
يعرف الروائي جبور الدويهي كيف يختصر نبض المدينة.. يجعل المكان مسرحا للأحداث والشخصيات.. يمزج بين التاريخ والواقع ليصنع وجبته الروائية، يعمل الدويهي أستاذا للأدب الفرنسي بالجامعة اللبنانية، ولديه العديد من الروايات التي جعلت منه أحد أبرز الأصوات الروائية على الساحة العربية، يكتب بلغة شيقة وأسلوبه سهلٌ ممتنعٌ، أصدر رواية "اعتدال الخريف" 1995، وحازت على جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة، و"ريا النهر" 1998، و"عين وردة" 2002، و"مطر حزيران" التي وصلت للقائمة القصيرة بجائزة البوكر، و"شريد المنازل" 2010، وأخيرا "حي الأمريكان" 2013، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر. حول البوكر والرواية والإبداع يتحدث الدويهي.
- بداية.. من عنوان روايتك الأخيرة "حي الأمريكان"، نرى أن المكان هو بطل الحدث، فهل يُمكن القول إن هذه رواية مكانية؟
راودتني في الواقع فكرة كتابة هذه الرواية انطلاقا من صورة "مكانية" كما تسميها، نهر المدينة الصغير يفصل بين من جهة حيّ فقير متراكم ببيوته الصغيرة العشوائية ومواد البناء الهشّة، وقبالته تماما في الجهة الثانية قلعة صليبية مشيدة بالحجر الرملي وصامدة منذ عشرة قرون، الحقيقة أنني استسلمت لهذا الحيّ المكون من أدراج ومعابر ضيقة لا تدخلها السيارة لأرسم داخله شخصيات، هي بدورها أليفة، شاركت في ما توالى على المدينة من موجات تضامن عروبية ناصرية، وفلسطينية فتحاوية، ومن ثم إسلامية جهادية.
- يتكرر مشهد التليفزيون الافتتاحي وما يعرضه في الرواية في عدّة مشاهد أخرى، هل كانت لديكَ نية في إبراز تأثير التليفزيون على الواقع سواء بتسطيحه أو بتضخيم الأمور؟
التليفزيون، قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ومع وجودها، تحول بسرعة لنافذة تطل مباشرة على عالم متنوع ومتعارض، وكان وما زال تسلية رئيسية وحاضر متكلّم رئيسي في غرف الجلوس يصعب التغاضي عنه وعن دوره، افتتحت روايتي بالتليفزيون وعدت إليه مرارا كعنصر من العناصر ذات الدلالة في حياة يومية فقيرة ومستسلمة لنمط التواصل هذا.
- في أحد المقاطع يتراجع "إسماعيل بلال" عن تفجير حافلة للركاب في المحمودية بالعراق، هل ترى أن النزعة الإنسانية تتغلب أحيانا على بعض الأفكار الإرهابية والأيديولوجية؟
حالات التراجع عن ارتكاب عملية انتحارية باتت معروفة، وهناك برامج تليفزيونية ترصدها أحيانا، ويحدث ذلك لأسباب مختلفة منها النقص في إعداد المتطوع أو غير ذلك، أما "إسماعيل" فلا أهمية روائية له إن لم يتراجع، ومن الأساس اعتبرت أن عليه أن ينصاع لقلبه ومشاعره، وفي كل حال هو رُمي بعجالة في العراق، والعملية أعدت له من دون كثير استعداد، في الخلاصة لا يشبهنا "إسماعيل" إن لم يتراجع عن فعلته الرهيبة.
- بالرغم من أن الرواية تتناول "حي الأمريكان" بمدينة طرابلس اللبنانية، إلا إنها تُسلِّط الضوء على واقع الوطن العربي، وما فيه من انكسارات ومشاكل واضطرابات، هل هذا صحيح؟
الحيز الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية يشبه أمكنة أخرى في العالم العربي والإسلامي، وحتى في بعض أحياء أو ضواحي المدن الأوروبية، فحيث يختلط اليوم الفقر والتهميش والظروف السكنية السيئة والتسرب المدرسي والبطالة مع دعوات دينية جهادية، يمُكننا توقع تطورات وفق سيناريوهات مشابهة يسودها العنف.
- الأحداث التاريخية وجبة أساسية في رواياتك، لكن هذه المرة في "حي الأمريكان"، هناك مزيج ما بين قسوة الواقع والحدث التاريخي، هل قصدت ذلك؟
الوقائع العامة المعاصرة أو الماضية تشكل خلفية رواياتي وتاريخ أحداث طرابلس في العقود المنصرمة، بما فيه من قسوة وامتداد لأحداث أكبر كانت تعصف بالعالم العربي، كان لا مفر من ابرازها كمادة ونمط تتفاعل معه الشخصيات، يصنعها وتؤثر به، في كل حال الرواية مع ما فيها من واقعية تتعامل بانتقائية توظيفية مع التاريخ ووقائعه، وهي ليست ملزمة بالدقة الكاملة وهذا ما حصل معي.
- هل يُمكن القول إن الرواية صوت الفرد، حيث تُطرح الأحداث من خلال حكايات الأفراد الشخصية وليست الجماعية؟
في اعتقادي أن لا رواية قبل بروز الفرد وحضوره، قبل ذلك كانت الحكاية والملحمة والميتولوجيا، والعصر الحديث الأوروبي شهد ثورات عديدة، ومنها صعود الفردية وهو ما تجلى في الرسم والفنون والكتابة، والرواية صوت الفرد في تمرده أو تمايزه عن الجماعة وقيمها ومصائرها، وهذا نقاش أكاديمي تاريخي بين أساتذة الأدب.
- بعد أحداث الربيع العربي، هل ترى أن الموت أصبح "سلعة" محتكرة، لدى جماعات أصولية تجعل من تزييف الوعي أداة لتحقيق أهدافها؟
الموت سلعة عريقة في الصراع السياسي والاجتماعي، لكن الجماعات الأصولية تسرف في استخدامها، خصوصا لجهة قتل الذات، وهذا في سياق "الحروب اللامتوازية" سلاح نوعيّ.
- لماذا ينتابنا شعورٌ بأن شخوص "حي الأمريكان"، لديهم حالة اغتراب ولا انتماء طوال الوقت؟ هل الفقد أصبح سمة أساسية في حياتنا اليومية؟
لولا تميّزهم عما حولهم، لولا أن عبد الكريم ابن عائلة وجهاء نمطي يتبنى معاييرها وسلوكياتها، ولو أن إسماعيل محسن كان جهاديا عاديا، لما افتكرت في اختيارهما أبطالا في روايتي، وهذا حال الروايات في الغالب.
- بالرغم من أن "إسماعيل" كان يؤدي عملية انتحارية لم تتم في العراق، إلا أن الحي كان يرفع صورته باعتباره بطل شهيد.. هل ترى أن التناقض أصبح واقعا في حياتنا اليومية؟
هذا ليس تناقضا، بل تأكيد على أن الذين يقومون بهذه العمليات، وخصوصا تلك البعيدة منها، والتي يكون ضحاياها غير معروفين، يتمتعون باعتبار في بعض بيئاتهم، وهذا الاعتبار يشجع الشبان على الإقدام، يمنحهم قيمة يفتقدونها في حياتهم، فربما يحصلون عليها في مماتهم!
- أنتَ أستاذ للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، ومع ذلك تكتب باللغة العربية، على الرغم من تعرضك للثقافة الفرانكفونية، فهل ترى أن اللغة العربية أكثر استيعابا للحدث الروائي من غيرها؟
كل اللغات تستوعب الأحداث والمرويات، يبقى أن العربية لغة أمي ولغتي الأم، وأنا مقتنع أن في كتابة الرواية شيء من غرائزنا الأساسية، لا يمكن إخراجها إلا باللغة الأولى.
- كتاباتك مليئة بالمشاهد البصرية كأنها خارجة من فيلم سينمائي، هل ساعدتك الأفلام على تطوير أسلوبك السردي؟
لا أعرف إن كان تأثير السينما هو الذي يجعل المشاهد المكتوبة مرئية، لأني عندما اقرأ "فلوبير" مثلا، وهو كتب قبل السينما أشعر بأن عالمه مرئي بشكل كبير، علما بأني أحب السينما وأعتقد بوجود تأثير للأفلام لجهة "المونتاج"، أو التوليف والوصل والقطع، وإلى ما هنالك من تقنيات سينمائية لها ما يماثلها في الكتابة السردية.
- شخصيات "حي الأمريكان" يبدو عليها الخضوع والاستسلام لقدرها، وخصوصا "إسماعيل" الذي يتسلم مسدس والده الذي حارب به، ليدخل حربا لا يعرف عدوه فيها، هل هناك قيود غير مرئية تقيد الفرد العربي طول الوقت دون أن يشعر؟
الامتثالية موجودة تتسبب بعدوى السلوك خصوصا في زمن التواصل المباشر والواسع بين جميع الأرجاء، أما مسألة العدو ومن يعيّنه فيبدو لي أن هناك مروحة واسعة من الأعداء، في وجه التيار الذي انتمى إليه إسماعيل بدءا من جار قريب إلى مقيم في آخر الدنيا، وظهر ذلك خلال نقاشات المجموعات هذه حول تحديد أهدافها، هل هو مطعم "الماكدونالد" أم المعبد الهندوسي، إلخ؟
- لغة "حي الأمريكان" بالغة الرهافة والرُقي.. إلى أي مدى تشكل اللغة هاجسًّا لك في أثناء الكتابة؟
اللغة هي كل شيء، تقود الأفعال ترتبها، تعطي اللون والموسيقى، أكتب على مهلي، "كلمة.. كلمة" إذا صحّ القول، وأعيد مرارا حتى تطفح نفسي وأرضى.
- رواياتك "مطر حزيران"، "شريد المنازل"، و"حي الأمريكان"، تبدو من عناوينها غارقة في المحليَّة، هل ترى أن تلك المحلية هي السبيل للعالمية؟
لا أفهم ما يعني محلية وعالمية، أعتقد أنها تصلح في السياسة أو في الاقتصاد وليس في الرواية.
شاهد أيضا:
- روايتك "حي الأمريكان" على القائمة الطويلة للبوكر العربية، ما الذي يعينيه لك هذا؟
تعبت من الإجابة على هذا السؤال، لأن الأمر يحدث لي للمرة الثالثة.
- كيف تنظر إلى مستقبل الرواية العربية في ظلّ الرهانات اليومية والوضع الحالي؟
رواية ممتازة اليوم ومزدهرة، وسيخرج من هذا المخاض أعمال عظيمة لا شك.