خناقات النت
كان أسبوعا حافلا بالأخبار والتخوّفات.. فمِن أخبار الانفجارات والقنابل البدائية والصوتية المعتادة إلى أخبار استشهاد الضباط والجنود.. ومن خبر وفاة الشحرورة وما أثير من تعليقات عليه إلى انتظار تهديدات 28 نوفمبر، ومتابعة ما سيحدث إلى خبر محاكمة مبارك ومن معه وصدور الحكم في قضية القرن.. وغير ذلك من بداية الأسبوع بجو بارد وأمطار غزيرة وتوقف شوارع القاهرة بشلل تام.. من كل هذه الأخبار كان أكثر ما توقفت شخصيا عنده هو خبر تصادم قطاري مترو مصر الجديدة، الذي للأسف لم يتوقف عنده الكثيرون.
وربما لتزاحم الأحداث لم يلتفت المصريون كثيرا لخبر تصادم القطارين أو ربما لأنه لم يقع تقريبا ضحايا للحادث.. أو قد يكون السبب هو أننا على صفحات التواصل الاجتماعي لا نهتم سوى بالخبر الذي نستطيع أن نعلق عليه (بخناقة).. فقد نجد خبر وفاة صباح مدعاة للسخرية من قِبل البعض وموقف إنساني طبيعي من جهة البعض الآخر وفقدان قيمة فنية تستحق تذكر ما قدمت للفن في المنطقة العربية من قبل فريق ثالث.. وهكذا يصبح خبر وفاتها فرصة خناقة بين رواد صفحات التواصل الاجتماعي.
وقد نجد في خبر أحكام البراءة فرصة ذهبية لخناقة جهنمية محلاة بالشتائم المنتقاة، وتبادل الاتهامات بالخيانة أو الغباء أو الجبن أو عدم الثورية أو نقص الوطنية أو عدم الإنسانية بين فريقين متناحرين يرى أحدهما أن أحكام البراءة صحيحة مائة بالمائة، ويرى الآخر أنها خطأ مائة بالمائة ويقول كل من الفريقين: نحن لا نُعلق على أحكام القضاء.. ولكن - أهم حاجة ولكن.. وهكذا يحتل خبر البراءة حيزا كبيرا من اهتمامنا الإعلامي لا لأنه يتعلق بتاريخ وحاضر الدولة المصرية، ولا لأنه يتعلق بمؤسسة من مؤسساتها الهامة وهي مؤسسة القضاء، ولكن لأنه فرصة للعراك والانقسام والتصادم وتأليف النكات من هذا الفريق وذاك. كفانا شجارا ولنختلف دون أن نتعصب لرأينا.. والأهم من هذا هو أن نحدد أولوياتنا
حتى الأمطار كانت خبرا هاما بالنسبة للكثيرين إذ كان مدعاة لاستحضار خناقة قديمة جديدة هي خناقة أتباع فصل الصيف وأتباع فصل الشتاء.. واحتل خبر بداية الجو البارد مساحة كبيرة من التعليقات والنكات أيضا، واحتدم النقاش بين أنصار الفصلين البارد والساخن، وانبرى كل فريق في ذكر حسنات فصله وسيئات الفصل الآخر.. وكأن الانقسام صار هو مقياس اهتمامنا بالأخبار، والشجار هو سبب تواجدنا على السوشيال ميديا.
أما أن يصطدم قطاران للمترو في منطقة مصر الجديدة بالعاصمة المصرية القاهرة فلم يكن خبرا هاما.. أن تتفاوت الأخبار في تحميل المسؤولية تارة على انقطاع التيار الكهربائي، وتارة على تعطل الفرامل وقلة الصيانة وتارة على السائق ولا يفهم القارئ ما حدث: كل هذا غير مهم على الإطلاق ولم يقم مصدر إعلامي واحد من المصادر التي ذكرت الخبر بمتابعته أو إعلام القراء بسير التحقيقات فيه وبملابسات الاصطدام حتى يتسنى لنا معرفة المسئول أو حتى إلى من تشير أصابع الاتهام!!
هل من المعقول ألا يهتم المسئولون بحادث بهذا الحجم وفي قلب القاهرة؟ ولولا (تدخل العناية الإلهية) كما هو الحال مع كل حوادثنا تقريبا؛ لكان الحادث قد أدى إلى دمار بشري ومادي أكبر بكثير مما كان؟
هل كان اصطدام القطار الذي (بلا سائق) بالقطار الآخر من النعم الإلهية كما قال البعض لأن تلك المنطقة بها انحدار مما كان سيدفع القطار الذي بلا سائق إلى مسافة بعيدة بسرعة كبيرة قد تؤدي إلى دمار رهيب؟
وربما اصطدام القطار الآخر به كان حلا إلهيا لمنع كارثة أكبر بكثير؟ هل يعقل أن يترك سائق قطار القطار الذي يقوده؟ وهل يهمل الإعلام متابعة حادث بهذه الأهمية لورود أحداث أخرى – في رأيي المتواضع - أقل خطورة بكثير من مثل هذا الحادث؟
لأن خبر تصادم قطاري المترو لا توجد فيه عناصر الخناقة الجيدة فهو خبر غير مهم.. لو كان يحتوي على انقسام حاد في الرأي، أو فرصة كبيرة لتأليف النكات، لكان احتل مكانا ومكانة وحصل على اهتمامنا وزاد من انقسامنا.. كفانا شجارا ولنختلف دون أن نتعصب لرأينا.. والأهم من هذا هو أن نحدد أولوياتنا ونقف على أسباب مشكلاتنا ونعالج تصادمات القطارات قبل أن نروي النكات على وفاة فلان ونتعارك على براءة علان.