التوقيت الخميس، 02 يناير 2025
التوقيت 01:33 م , بتوقيت القاهرة

"في الليل يرقصن".. عن حياة "عوالم الدرجة التالتة"

كتبت- غادة قدري:

تتمايل "هند"، وعلى جسدها يومض الضوء المتلون وينطفئ، ويستتر وجهها خلف ألوان، بعيدا عن الحقيقة، وبصعوبة يمكن تمييز شكل حاجبيها الأصليين.

وتحت رموش مستعارة غارت عينان خضراوان ربما أو يميلان للزرقة، فاختفى لونها الصافي، لتستمر في التمايل على نغمة موسيقى صاخبة، ينسدل شعر صناعي كاذب خلف ظهرها، ليكمل صورة الدمية التي تهز خصرها ولا يعلو على وجهها المتحجر أي رد فعل، مؤدية دورها اليومي المتكرر بصمت، من أجل حفنة جنيهات تقبضها آخر الليل.

هذه هي هند، إحدى بطلات فيلم "في الليل يرقصن" الوثائقي، إلى جانب والدتها الأربعينية "رضا"، والتي تحمل جنينا في بطنها يستعد للانضمام إلى العائلة.

"في الليل يرقصن" هو فيلم المخرجة الكندية "إيزابيل لافيني" يكشف كواليس وأسرار حياة "العوالم" المستترة في مصر، وصورته لافيني بالتعاون مع المصور الكندي "ستيفان تيبوه"، والذي حمل كاميرته بصحبة لافيني وصوّر في منطقة حلوان حيث تقيم "رضا"، التي ستكون هي وبناتها الثلاث بطلات الفيلم طوال ساعة وتلت، الفيلم معايشة يومية في حياة الأسرة بدون سيناريو ليبرز يومياتهم الحقيقية، ولكن بمنتهى الصدق والواقعية الشديدة.

 فيلم في الليل يرقصن



في ساعات الرقص تتحول هند وأخواتها إلى شخصيات غير حقيقية، يتسترن بالباروكة، والماكياج، يعشن في عالم غير حقيقي يفرض عليهن الشرف، وفي نفس الوقت لا يرحم فقرهن ويطالبهن بألا يتسكعن، ولا يمد لهن أحد يد مساعدة لتخطي ظلمة الفقر وأعباء الحياة والمسؤوليات، ولدت هند ذات الـ16 ربيعا في نفس المجتمع الذي يعاني القوانين التي صنعت الفقر ولم ترحم.

هناك مع ضيق ذات اليد في أحياء الفقراء، تلتصق البيوت وتتكوم الأجساد في عشش لا أثاث فيها، ولا تتسع في العادي لشخصين على الأكثر، تعيش هناك رضا، السيدة الأربعينية التي تبدو للوهلة الأولى امرأة مسيطرة تحكم حول قبضتها زمام أمور أسرتها المكونة من 7 أبناء، بينهن 3 فتيات يرقصن والجدة التي نالت شرف حج "بيت الله"، وتصلي وهي تتمتم بدعوات من أجل الرزق والستر.

فقدت رضا زوجها الأخير قبل 5 أشهر، فقط منذ بدء تصوير الفيلم، وهي تستمر في ذكر أيامهما الجميلة معًا، وتناضل من أجل الحفاظ على كيان أسرتها، وفي نفس الوقت تدرب بناتها منذ الصغر على "هز الوسط" فهو مصدر الدخل الوحيد الذي تجيده العائلة، إضافة إلى تجارة بدل الرقص الرخيصة.

تكشف رضا عن شخصية تنبض بالحياة رغم قسوة الظروف المحيطة بها، اعتادت طوال الفيلم الذي يصوّر واقع حياتها أن تأخذ من السيجارة وسيلة تنفيس عن غضبها، واتخذت من صوتها العالي درعا لكي يحميها من أي محاولة للمساس بها، ولهذا فإن أغلب مشاهدها تجعلها تبدو في صراع دائم مع الحياة ومع المحيطين بها، ومحاولتها المستمرة للحفاظ على بناتها، وفي نفس الوقت تشجيعهن لاقتحام عالم الأفراح الشعبية.

المشاهد الأولى من "الليل" تبدو وكأنها عبارة عن تصوير للفرحة والحرية في حياة مجموعة من النساء المنفلتات، لكن مع الاستمرار في المتابعة سيكتشف المتفرج بأن الفيلم، الذي تم تصويره بكاميرا شخصية خلسة، يكشف مزيجا من الألم اليومي والمعتاد لأسرة تقدس منظومة الحياة الإجتماعية.

الأم تخضع بناتها الراقصات لقوانينها الصارمة، هن فقط أرتيست "فنانات" يقدمن عروضا في حفلات منتصف الليل ولا يمكن لأحد تجاوز النظر لرقصاتهم، في المقابل فإنهن يمارسن الرقص كالآلات، يؤدين أدورهن بعد الاحتجاب خلف طبقات من مساحيق التجميل، والمجتمع الذي فرض عليهن الفقر هو نفسه يدينهم بالازدراء.

فهند الصغيرة، تلك راقصة شعبية ترتدي ملابس قد تبدو خليعة، وتمسك بيدها سيجارة، تتحدث عن حياتها بعد أن تركت والدتها لتعيش مع والدها الذي تزوج أمها وطلقها، وتعيش قصة حب مع رجل متزوج وهي تعلم بأنها لن تتزوجه، وتقول الحقيقة التي اكتشفتها مبكرا "هو عنده بيت مش هخرب بيته" لكن في نفس الوقت "عوضها حنانًا وحبا لم تجده عند والدتها أو والدها، هي تعرف بأنه لن يتزوجها وهي لا تسعى للزواج منه وتقول: "لو اتجوزني هياخدني بنت ويسيبني مرة، ولو خلف مني ممكن يسيبني، ويقولي والله كل واحد يروح لحاله.

والبنت دلوقت يعني إيه.. ألف واحد بيجري واراها .. و الألف واحد مش طايلها
لما تكون بقي مدام.. الدنيا كلها تبقي عادي بقي.. بالنسبالهم عادي..
يعني إنتي كنتي قدامنا ومكناش طايلينك.. لكن إنتي دلوقتي بقى مِطالة.. مانتي بقيتي مش بنت".

هي مثلك تماما ومثلي تماما.. ومثل أي شخص في هذا العالم الذي فقد إنسانيته، تبحث عن الحب، ولكن في نظر مجتمعها هي لا تصلح للحب، تلك مشاهد من حياة راقصات شعبيات، ولكن مهلا قبل الحكم عليهن، ينبغي النظر إليهن في سياق المجتمع والظروف السياسية والاقتصادية والثقافية التي كونت هذا المزيج.

الفيلم من إنتاج عام 2011، نال اهتماما دوليا ولم ينل اهتماما مصريًا، رغم مشاركته في مهرجانات دولية وعربية، وفوزه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان هوت دوكس - كندا 2011، كما شارك أيضًا في تظاهرة أسبوع المخرجين في مهرجان "كان" 2011، ومن المختارات الرسمية في مهرجان أمستردام التسجيلي الدولي 2010.