عبد الله غيث.. فارس المسرح يهزم أمراء النجومية
عبد الله غيث
معتمد عبد الغني
الثلاثاء، 13 مارس 2018 03:28 م
من أجل ألا تضيع حضارة الإسلام في الأندلس، يتحدى الشاعر «بن زيدون» في صراع ملحمي حكامًا يتقاتلون من أجل زعامة في كل شبر من ربوع قرطبة، لكن هذا الوزير العاشق اختار أن يصنع الحلم في الطرقاتِ بين الناس، هل هي مصادفة أن تتشابه خيارات شخصية الكاتب الأندلسي بدرب «عبد الله غيث» الذي جسد حكايته على خشبة المسرح بعد مضي قرن من الزمان.
فوق خشبة المسرح المصري، يلقي الفارس العملاق عبد الله غيث، الأشعار بصوته الجهوري، ولغته العربية السليمة، لخاطره تضامنت ورضخت انفعالات الوجه، ولغة الجسد، والنظرات الحادة، على نشر أثير موجات الصدق والإقناع في الصالة التي التهبت أيادي الجالسين فيها تصفيقًا، وشهدت الكواليس استعدادات هذا الفنان المتواضع البسيط لشخوصه الكثيرة، واختياره أن يكون مسرحيًا ليس نجمًا، مثلما فعل «بن زيدون»، ابتعد خليفة يوسف وهبي، عن صراعات أمراء الفن حول النجومية، وقرر أن يكون سفيرًا للشعب في المسرحيات الشعرية، يصنع الإبداع بين الناس في ممرات المسرح.
الحالة الإبداعية التي صنعها عبد الله غيث، وسميحة أيوب، في المسرحية الشعرية «الوزير العاشق»، جعلتهم الخيار الأول أمام وزارة الثقافة لتمثيل مصر في المهرجانات المسرحية الدولية دون منافس، على مدار ثلاث سنوات عرضت في الجزائر، وتونس، والأردن، وسوريا، ما أثار غضب المسرحيين الذين استنكروا إفلاس المسرح المصري، وانفراد عمل واحد بالمشاركة.
لم يحاول عبد الله سيف الدين الحسيني غيث، أن يدغدغ مشاعر وأحاسيس الجمهور، ويتملق شباك الإيرادات، رفض السينما الرخيصة وهاجم أنصاف الموهوبين، وممثلات رقصن.. وراقصات مثلن في المسرح الخاص، ولم يفهم نظرية الخروج عن النص في نص مسرحي أجوف.
لم يخش غيث فقط على رصيده الفني الكبير، كان يرى أن الفن خدمة عامة لكل مواطن، لا يتيسر له دفع تذكرة المسرح التجاري، ويبحث عن تجربة فنية ثرية لا تحتوي على المشهيات والإفيهات المبتذلة.
رغم أن المسرح بيته الأول، إلا أن الدراما التلفزيونية، وبعض الأدوار السينمائية، سجل أكثر ديمومة للمتفرج، الذي لم يشاهد مسرحياته الدخان، وماكبث، والحسين، والمخططين، والفتى مهران، والمصادرة، معظمها لم تصور تلفزيونيًا، لذا نجد أن «عباس الضو»، و«علوان البكري»، في الصدارة، لأنهما ضيفان دائمان على الشاشات في البيوت، منذ عرضهما الأول في بداية التسعينات حتى الآن.
رحلته في السينما بدءًا من فيلم السمان والخريف، والحرام، وثمن الحرية، وانتهاءً بـعصر القوة، وديك البرابر، خطوات العملاق المسرحي الواثق من «تعملقه» حتى ولو كان الدور صغيرًا، كل الخارجين من رحم الخشبة والكمبوشة، يدركون قوتهم، لذا لم يكن عبدالله غيث مندهشًا من طلب النجم العالمي «أنتوني كوين»، في كواليس فيلم الرسالة، الأخير أصر أن يشاهد الممثل المصري أولًا وهو يقدم دور حمزة بن عبد المطلب، في النسخة العربية، ليستفيد من طريقته في الأداء وهو يقدم نسخته الغربية، ربما لو كانت تلك المعلومة نسبت لفنان آخر، لزعم البعض إنها إشاعة، لكن مع غيث، واقعة قابلة للتصديق.
الجماهيرية العريضة التي امتلكها عبد الله غيث، لم تصبه بغرور الشهرة، يبحث عن الشخصية التي تستفز موهبته في نص مسرحي، أو سيناريو سينمائي، أو مسلسل درامي، لا يهم حجم الدور وعدد جمله الحوارية، طالما في النهاية سوف يحوز على اهتمام المتفرج للنهاية.
لهذا لم يقاوم إغراء شخصية علوان البكري، في مسلسل ذئاب الجبل، رغم أن البطولة يتقاسمها أحمد عبد العزيز، وشريف منير، إلا أن الحكاية تبدأ بعبد الله غيث، ولولا وفاته المفاجئة قبل إتمام المشاهد المتبقية، لرأينا النهاية الأولى التي كتبها محمد صفاء عامر، عندما يعود البدري (عبد العزيز) وأخته (سماح أنور) إلى الصعيد، ويكتشف دبور (أحمد ماهر) أن علوان (غيث) قتل مهجة، هنا يثأر لحبيبته بقتل سيده.
اللافت أن عبد الله غيث عندما عرض عليه دور علوان البكري، بديلًا عن صلاح قابيل، الذي توفي قبل انتهاء دوره قال لهم مازحًا: «عايزني أعمل علوان عشان أموت أنا كمان»، وكأنه كان يتنبأ بأن آخر أدواره في ذلك العام سوف تكون في الجلباب الصعيدي الذي أجاده.
في مارس 1993، أسلم غيث روحه في العناية المركزة، بعد 50 عامًا من العطاء الفني، وبقيت كل الشخصيات التي جسدها في الوجدان، وإذا كان فنانًا يوصف بالقدير، لن يوجد أجدر منه لهذا اللقب الذي كان يفتخر به في الحوارات الصحفية، بدلًا من كلمة النجم التي كانت تثير حفيظته.
بعد نحو ربع قرن، يتفق النجم محمد رمضان والمخرج محمد سامي، على اختيار غول تمثيل يعطي تاريخًا ومبررًا لشخصية الأسطورة رفاعي الدسوقي، نشاهد عبد الله غيث في المشهد، مجرد صورة فوتوغرافية لفنان راحل أعطت تأثيرًا أقوى من أنصاف المواهب الحاضرين، وكأن ما أراده في حياته يتحقق بعد الغياب، موهبته غلبت صراع أمراء النجومية، وكما قال «بن زيدون»: «حاولت جهدي أن أوحدهم، رفضوا جميعاً أن أكونَ كبيرهم .. وأنا الكبير».
لا يفوتك