التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 04:46 م , بتوقيت القاهرة

عن فصام السياسة الاقتصادية مرة أخرى

استمعت قبل يومين، على الراديو، إلى شكوى رجل أعمال من سياسات الحكومة المصرية، وبالتحديد عن سياسة واحدة تضع سقفا للإيداع النقدي بـ 50 ألف دولار شهريا. لا نحتاج إلى تضييع فقرة من هذا المقال لتوضيح إلى أي حد هذا المبلغ هزيل حين يأتي الأمر إلى صفقات استيراد وتصدير، مهما كان حجم العمل. كلنا نعرف أن قرارا كهذا يحمل أصحاب الأعمال أعباء رهيبة لكي يستطيعوا تحويل الأموال من دولة إلى دولة، دون أن تمر على السوق المصرية. فمهما قلنا، ستردد الحكومة جملة واحدة، أن القرار غرضه الحفاظ على العملة الصعبة وكبح السوق السوداء.

وهذا بيت القصيد. العقلية التي تعتقد أنني لكي أعالج حصوة في الكلى فإن الحل الأمثل أن أتخلص من الكلى تماما (فمش هيبقى عندنا حصاوي كلى، مش كده ولا إيه). لا يهم عقلية الموظف تلك أن النتيجة ستكون فشلًا كلويا. كل ما يهم أن تعود الموظفة إلى رئيستها بتقرير تقول فيه إنها نجحت في مهمتها وقضت على حصاوى الكلى.

وفي استدراك بسيط، لأثبت لكم أن كوارث كتلك ليست من باب النوادر، فإن إحدى التعقيدات المتكررة لمرضى الفشل الكلوي في الواقع فتاوى من هذا القبيل. يشعر المريض بمغص فيتطوع أحدهم لعلاج المغص بعصير ليمون، وهذا يحتوي على أملاح تفاقم الحالة، وقد تقضي على المريض. يعني علشان نعالج المغص نموت العيان.

حكومتنا لديها "أمغاص" مقدسة، مغص "الفساد" ومغص "السوق السوداء" ومغص "العملة الصعبة". وعندها ليمون مقدس. ملاحقة الفساد والفاسدين (الفساد الأكبر يقوم به صغار الموظفين، حتى لو كان نصيب الفرد منه قليل). القضاء على السوق السوداء (هذه ستستمر طالما العرض والطلب غير متوازنين).

وهي لا تدري أنها كلها أعراض لمرض واحد اسمه فشل الإدارة الاقتصادية. اسمه الإنفاق الذي لا تبرره الجدوى الاقتصادية، بل تبرره الرغبة في دوام الحال. دوام التأييد السياسي عن طريق جيش من موظفي الحكومة، حافظين لعهد التواطؤ الضمني. يقبضون رواتب على مهن مختلقة، العشرة منهم يؤدون مهمة تحتاج فردا واحدا.

ومن أجل هذا الغرض، لا بد من دوام السيطرة الاقتصادية، حتى لا يتحول القطاع الخاص إلى المشغل الأساسي للقوى العاملة (مصدر أكل العيش).

هنا المشكلة. مافيش حكومة في الدنيا هتقدر تقوم بأعباء تسعين مليون، ولو حاولت - نظريا - فلا بد أن يتضخم جهازها الإداري جدا.

جهاز إداري متضخم + ولاء سياسي لا يمكن الاستغناء عنه = إدارة عاجزة عن الثواب والعقاب، عاجزة عن التحديث (الذي يستلزم الاستغناء عن موظفين لم نعد بحاجة إليهم مع دخول الآلات العصرية) وعاجزة في الوقت نفسه عن الوفاء بأعباء هذا الجهاز.

هذه قصة كل شركة قطاع عام.

لكن أين كمالة القصة؟ كمالة القصة أن تلجأ الحكومة إلى آخرين ليساعدوها، أن تعلن أنها تفتح "باب الاستثمار". يصدقها المستثمرون، يأتوا لكي يشاركوا، فيجدوا شيئين أساسيين:

1. حكومة تريد أن تشاركهم في كل مشاريعهم.

2. ليس ذلك فقط، بل أن ترغمهم على التعامل بمعاييرها، سواء في المشاريع ذاتها، أو من خلال تعاملهم مع مجمل السياسة الاقتصادية التي تنتهجها.

الناس اللي جاية تشتغل بجد، وتكسب أو تخسر حسب قواعد منافسة واضحة، بتمشي. والناس اللي جاية ولها "منافع أخرى" بتفضل في مقابل المنافع الأخرى دي، واللي هي غالبا بنسميها فساد.

الفساد ليس أكثر من كلمة "قيمية" للفشل الإداري. بدل ما نقول فشل إداري وهدر وقواعد غير واضحة بنقول فساد. ليه؟ لأننا لو قلنا فشل إداري يعني "سيستم" تعبان. إنما لما نقول فساد نستدعي إلى أذهاننا صورة الجزء الخرب من تفاحة، أو الجزء "الشيطاني" من الحياة، التي نتخيل أننا نستطيع أن ننزعها ونتخلص منها.

السوق السوداء ليست أكثر من كلمة "دلع" للفشل الإداري، للسياسات المالية التي تحاول أن تفرض على العملات قيما لا تستحقها.

إن كانت حكومتنا تريد الاستثمار لكنها لا تريد التحديث، أو تريد الاستثمار لكن تريد استمرار السيطرة على المشاريع، تريد الاستثمار لكنها تريد أن تقنع الناس بقيمة للعملة لا يعترف بها العالم الخارجي، تريد الاستثمار لكنها تريد أن تفرض نفس القيم الوظيفية التي تمارسها في جهازها الإداري الفاشل، فهي إذن مصابة بالفصام الاقتصادي.

فصام بين المعلن في المؤتمرات.. والممارس على الأرض.