التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 02:31 ص , بتوقيت القاهرة

وثائق| قصة الخلاف بين الأب متى المسكين والبابا شنودة

رغم المحبة القديمة التي جمعت ما بين الإثنين، إلا أن خلاف البابا شنودة الثالث مع القمص متى المسكين - الذي تحل ذكرى ميلاده في مثل هذا اليوم عام 1919 - يعتبر هو الأشهر على الإطلاق، نظرا لاستمرار الخلاف لسنوات وامتداده لتلاميذ الإثنين حتى الآن.

الأستاذ وأبيه

في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ترهبن جيل من الرهبان الشباب من حملة الشهادات، وكان الراهب متى المسكين أحد أبرزهم، وأثناء تلك الفترة نشأت علاقته مع نظير جيد (البابا شنودة) الذي انضم لجيل "الرهبان الجدد" باسم انطونيوس السرياني، فكان من وصفه نظير بـ"أبي الراهب"، خلال مقالات "انطلاق الروح"، هو نفسه القمص متى، إذ تحدث نظير عن قصة أول 28 يوم في حياة راهب، والتي تنطبق تماما على القمص متى [1] [2].

فكان القمص متى بالنسبة لنظير (والراهب انطونيوس) هو المرشد الروحي، بينما كان نظير بالنسبة للمسكين هو الأستاذ، إذ راجع نظير للقمص متى الطبعة الأولى لأول كتاب له وهو "حياة الصلاة الأرثوذكسية" عام 1954، باعتباره أستاذ بالكلية الإكلريكية.

أول خلاف

في منتصف عام 1956، انتقل القمص متى من دير السريان إلى صحراء دير الأنبا صموئيل، وانتقل معه عدد من الرهبان، كان من بينهم الراهب انطونيوس (البابا شنودة) [3] [4]، ولكن سرعان ما نشأ الخلاف الفكري هناك، فقرر أنطونيوس تركه وعاد لدير السريان في مايو 1957، ومنذ تلك اللحظة لم يعد القمص متى مرشدا روحيا له. [5]

مراجعة كتبه مع الأنبا غريغوريوس

في عام 1960، عبر الراهب أنطونيوس عن انزعاجه من كتابات القمص متى، وذلك خلال رسائل متبادلة بينه وبين الدكتور وهيب عطاالله (الأنبا غريغوريوس فيما بعد)، خاصة عندما وجد أن المنشورات تقول أنها تصدر بمراجعة الأخير، فسأله عن رأيه فيها [6].

وأكد الأنبا غريغوريوس له أنه بالفعل راجع كتابات القمص متى ونبهه لأخطاء موجودة بها، ولكنه لم يأخذ برأيه وطبعها كما هي، منوها أنه توقف عن مراجعة كتبه بعد هذا الموقف، كما ترأس الإثنين اللجنة التي شكلها البابا كيرلس لبيان ما في كتب القمص متى من "أخطاء"، لكنهما لم يقدما التقرير حتى لا يتسببا في المزيد من الأذى له. [7] [8]. ودائما ما يستشهد البابا شنودة بهذا الموقف ليؤكد أنه لم يضطهده وأنه لو أراد ذلك لاستغل خلاف المسكين مع البابا كيرلس وقدم له التقرير.



رفض كتابة تقرير في كتبه

ومنذ الستينيات، وحتى أوائل القرن الـ21، استمر الخلاف العقائدي بين كل من القمص متى والأنبا شنودة، وكان أبرزها يدور حول مسألة "تأليه الإنسان"، و"عقيدة الكفارة والمبادلة الخلاصية"، "النقد الكتابي والتشكيك في صحة أجزاء بإنجيل مرقس وبعض عبارات انجيل متى"، و"دور الأعمال الصالحة في نوال الخلاص"، و"مفهوم الوحدة مع الطوائف الأخرى"، ومسائل أخرى.

ورغم المحبة القوية التي جمعت الأنبا غريغوريوس بالقمص متى، والخلاف الذي وقع بعد ذلك بدءا من السبعينيات بين أسقف البحث العلمي والبابا شنودة، إلا الأنبا غريغوريوس خلال كتاباته وخاصة في "موسوعة اللاهوت العقيدي"، كان متطابقا مع نفس الفكر اللاهوتي للبابا شنودة تجاه القضايا اللاهوتية السالف ذكرها، ولم يختلف الإثنين في الفكر الديني سوى في مسألة "مكان الأرواح بعد الموت"، ومسائل أخرى متعلقة بالأحوال الشخصية مثل شرعية الزواج من شقيقة الزوجة أو شقيق الزوج.
البابا شنودة والأنبا غريوريوس

وأكد البابا شنودة أنه أرسل للقمص متى أكثر من مرة ملاحظاته، إلا أن الأخير صمم على طبع كتبه بنفس ما جاء فيها، [9] مما دفع البابا للرد على كتبه في محاضرات بالكلية الإكليريكية دون ذكر اسم المؤلف، وأكد على نفس الكلام صديق القمص متى والأستاذ بمعهد الدراسات القبطية الدكتور مينا بديع عبد الملك في مقاله بعنوان "لا تنس محبتك القديمة للبابا شنودة"، أن القمص متى رفض تنفيذ ما جاء في مراجعات البابا والأنبا غريغوريوس مشيرا أن الأخير وصف القمص متى بأنه "راهب أمين لكن لا يدرك خطورة التعبير اللاهوتي الخاطئ". [11]
فيديو للبابا شنودة يتحدث عن مراجعته لكتابات القمص متى:

via ytCropper

القمص متى وأحداث 1981

في السبعينيات كان البابا شنودة يعبر عن ضيقه من حرق الكنائس وسقوط عشرات القتلى من الأقباط في حوادث متتالية، وأعلن رفضه لما سمي بـ"قوانين الردة" وتطبيق الشريعة معلنا الصوم عام 1977، وفي مارس عام 1980 وصل الأمر لإعلانه اقتصار عيد القيامة على القداس دون مظاهر احتفالية، احتجاجا على الأحداث المتتالية ضد الأقباط.

وذكر القمص متى أنه قابل الرئيس الراحل أنور السادات بعد إلحاح من بعض العلمانيين، وخلال حضوره الاجتماع الموسع الذي عقده المجمع المقدس، في 15 أبريل سنة 1980، أقنع الأب متى البابا شنودة أنه استطاع امتصاص غضب الرئيس، كما أكد أن السادات كان متفهما للغاية لكل شيء خلال مقابلته مرة أخرى في 21 أبريل 1980. [12]

إلا أن ما حدث هو أن خطاب الرئيس في الشهر التالي للمقابلتين وتحديدا في 14 مايو 1980، قد جاء تصعيديا تجاه الكنيسة، حيث تحدث الرئيس عن التطرف القبطي، وعن مطامع إنشاء دولة قبطية في صعيد مصر وعاصمتها أسيوط، وأنه رئيس مسلم لدولة مسلمة وأن ذلك يعد ضمانة للأقباط، ولمح أنه كان على وشك اتخاذ قرار ضد البابا شنودة إلا أنه امتنع عن ذلك بسبب "خطاب وصله من طالبة قبطية بكلية الطب".
via ytCropper

وقبل إصدار قرارات السادات ضد البابا بتحديد الإقامة واعتقال عدد من أساقفة المجمع المقدس والكهنة في 5 سبتمبر 1981، وتعيينه لجنة خماسية لإدارة الكنيسة، قال القمص متى أنه تقابل مع السادات، وأنه اقترح أسماء أعضاء اللجنة بعدما وجد تصميما من الرئيس على اتخاذ قرار ضد البابا، وأنه نصحه بألا يمس وضع البابا الديني، مؤكدا أنه رفض عرض السادات بتولي البطريركية، لأن قوانين الكنيسة لا تجيز ذلك، مشيرا إلى أنه طالبه بمناداة البطريرك بلقبه وليس "شنودة" لكي لا يجرح مشاعر الأقباط. [13]

الأب متى المسكين: قرارات السادات حمت الأقباط

بعد ما حدث له بفترة قصيرة، كان لدى البابا شنودة قناعة بأن تدخل القمص متى لم يكن للتهدئة كما أقنعه، بل كان لاستعداء السادات على الكنيسة من أجل تصفية حساباته معه، ورغم أن أحدا لم يحضر جلسات السادات مع القمص متى، إلا أن بعضا من تصريحاته وكتاباته خلال تلك الفترة زادت من قناعة البابا شنودة بأن دوره لم يكن للتهدئة.

وفي 28 سبتمبر 1981 وخلال حديثه لمجلة "تايم" الأمريكية (التي سبق وأدرجت القمص متى في تقرير ضمن "القديسين المعاصرين")، امتدح الأب متى المسكين قرارات السادات قائلا: "لا أستطيع أن أقول إنني سعيد، ولكنني في سلام الآن، كل صباح كنت أتوقع أخبارا عن مزيد من التصادمات الدموية. قرارات السادات حمت الكنيسة والأقباط، هي من الله".

وتابع القمص متى: "البابا شنودة هو أفضل بطريرك متعلم في تاريخ الكنيسة". إلا أنه يضيف: "رسامة البابا شنودة كانت بداية المشكلة، لقد حل العقل مكان الإلهام، والتخطيط مكان الصلاة. في سنواته الأولى كنت أصلي له، ولكنني أري أن الكنيسة تسير من سيء إلى أسوأ بسبب سلوكياته". [14]


وفي نفس الشهر، وتحت عنوان "تصحيح"، كتب الأب متى المسكين مقالا في مجلة "مرقس" الناطقة باسم دير الأنبا مقار، بأن الكنيسة حادت عن الوصية، وأن "الأقباط تركوا الملكوت وجلسوا يبحثون عن حقوقهم المدنية".

كما انتقد قرار المجمع المقدس برئاسة البابا شنودة في مارس 1980 باقتصار عيد القيامة على القداس دون احتفالات واستقبال للمهنئين بسبب أحداث الإعتداءات، قائلا "انصب الظلام على عيد القيامة، واتحدت الأصوات لإلغائه"، مضيفا "عاد داود يخطئ خطيته غير المغفورة وبدأ يعد الشعب"، ملمحا في ذلك لـ"مشروع العضوية الكنسية" الذي بدأه البابا شنودة في السبعينيات لعمل قاعدة بيانات لأعضاء الكنيسة. [15]

القمص متى المسكين: لا يوجد إضطهاد للأقباط

أما أكثر ما أغضب البابا شنودة وزاد من قناعته، فكان إعادة القمص متى طبع كتاب "الكنيسة والدولة" بطبعة مزيدة مرة أخرى أثناء أحداث السبعينيات، فيقول البابا "الكتاب عندما طبع لأول مرة عام 1963 لم يكن ضدي، وإنما ضد البابا كيرلس والأنبا صموئيل، لكن توقيتات إعادة طبعه لم تكن صدفة، فإعادة طبعه في 1977 تزامن مع إعلان الكنيسة للصوم أثناء موضوع قوانين الردة والشريعة، والمرة التالية في عام 1980، تزامنت مع قرار الكنيسة باقتصار عيد القيامة على القداس، فالطبعات الجديدة تصدر دائما عندما يكون هناك خلاف مع الدولة لاستعدائها علينا، وكان يوزع الكتاب على كل الرسميين الذين يزورون الدير".[16] خاصة في ظل الاحتفاء بالكتاب من قبل بعض المفكرين الذين هاجموا الكنيسة، مثل محمد عمارة وطارق البشري.

فيديو للبابا شنودة يتحدث عن "كتاب الكنيسة والدولة":
via ytCropper

وفي الكتاب يحذر القمص متى الكنيسة من تربية "عقدة اضطهاد" في أولادها متهما البعض بـ"بترويج شائعات عن الاضطهاد بهدف اثبات الوجود"، مشير إلى أنه لا يوجد اضطهاد للأقباط، وأنه حتى ولو حدث ووجد، فإن مقاومته و"المطالبة بحقوق للجماعة" تعتبر "مقاومة للصليب" و"استهتار بالسلطان الزمني"، وأن الكنيسة "ما يزال بها فكر قسطنطين الملك، أول من قاد حرب صليبية" – على حد تعبيره. [17].












وفي مقابل اتهام القمص متى للكنيسة بالتدخل في السياسة، أكد البابا أن القمص متى حينما طبع الطبعة الأولى من الكتاب تحت عنوان "مقالات بين السياسة والدين"، كان يحوي مقالات عن "الاشتراكية المسيحية" لإرضاء النظام الناصري، وأنه لارضاء السادات قام بإزالة هذا الجزء في الطبعات التالية في السبعينيات بعد انتهاء الحقبة الاشتراكية، بالإضافة لانكاره وجود اضطهاد في عصر السادات.

بينما يقول القمص متى أن دافعه كان وطنيا قائلا: "إنني منذ قيام الثورة وأنا أنادي بضرورة الانضمام إلى ركب العمل الوطني وعدم التخلف عن المناداة بالإشتراكية، وإزاء هذا الخطر: كتبت 7 مقالات في جريدة وطني بعنوان: "الاشتراكية من وجهة نظر مسيحية" وكان لها أثر كبير لدى المسئولين"، [18] كما أصدر كتيب بعنوان "رأي في تحديد النسل" في أغسطس 1967 يؤيد فيه خطة الدولة لتحديد النسل وأنها ليست ضد المسيحية.

عودة بعد جفاء.. مع بقاء الخلاف

منذ أحداث سبتمبر 1981، لم يلتقي البابا شنودة بالقمص متى، حتى زال الجفاء بزيارة البابا لدير الأنبا مقار في نوفمبر 1996، وتبادل الإثنين كلمات التحية، وحدث عدة لقاءات أخرى بعد ذلك، إلا أن الخلاف اللاهوتي بقى كما هو، وهنا يقول البابا شنودة في حديثه لجريدة "الأهرام"، "الأب متى المسكين ما من مرة كان مريضا إلا وزرته وسألت عليه، ولكن العقيدة شيء والعلاقات الاجتماعية شيء آخر". [19]

أثناء زيارة البابا شنودة للقمص متى في المستشفى

وأستمر البابا في الرد على كتبه في الإكلريكية قائلا "أنا ملتزم بعبارة الدسقولية التي تقول: امحو الذنب بالتعليم، ومازلت أطيل أناتي منتظرا أن يأتي التعليم بنتيجة"، كما رد عليه البابا في كتاب تحت عنوان "بدع حديثة" صدر عام 2006، ولكن بدون ذكر اسم القمص متى، مستبدلا الاسم بعبارة "يقول المؤلف"، وحينما سئل عن السبب قال "أنا أحارب فكرا لا شخصا".

المصادر والمراجع:

[1] كتاب انطلاق الروح للبابا شنودة – الطبعة الخامسة لمجلة مدارس الأحد -صـ14.

[2] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 – صـ67، 71.

[3] خطاب أرسله الراهب أنطونيوس السرياني (البابا شنودة) إلى الدكتور وهيب عطاالله (الأنبا غريغوريوس) بتاريخ 15/9/1956 ونشر في كتيب "عمق المحبة" – صدر عن جمعية الأنبا غريغوريوس.

[4] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 – صـ138

[5] خطاب من الراهب أنطونيوس لوهيب عطاالله بتاريخ 24/5/1957، ونشر في كتيب "عمق المحبة" - الصادر عن جمعية الأنبا غريغوريوس.

[6] خطاببين أرسلهما الراهب أنطونيوس لوهيب عطاالله، الأول في 1/5/1957 والثاني في يونيو 1960 – ونشرا بالمرجع السابق.

[7] خطابين أرسلهما الراهب انطونيوس لوهيب عطالله، الأول بتاريخ 7/8/1961، والثاني بتاريخ 20/10/1961، ونشرا في كتيب "عمق المحبة" – نشر في نفس المرجع السابق

[8] ذكر البابا شنودة نفس ما نشر في الخطابات في محاضرته بالكلية الإكليريكية بتاريخ 30/4/1991، وفي محاضرة أخرى بالكلية الإكليريكية بتاريخ 23/2/1988.
[9] المصدر السابق.

[11] نشر بمجلة روز اليوسف (صـ78) العدد 4106 عام 2007.

[12] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 – صـ338، 339، 340.

[13] كتاب "أبونا القمص متى المسكين.. السيرة الذاتية" (التي دونها بنفسه) - الطبعة الثالثة 2011 - صـ57.

[14] Father Matta al-Miskin, as quoted in “Egypt’s Copts in Crisis.” Medina, Sara; Wurmstedt, Robert C.; Harrison, Nathaniel. Time (September 28), 1981

[15] المقال الافتتاحي لمجلة "مرقس" الناطقة باسم دير الأنبا مقار.. سبتمبر 1981.

[16] محاضرة البابا شنودة بالكلية الإكليريكية بتاريخ 30/4/1991.

[17] كتاب "الكنيسة والدولة" للأب متى المسكين - الطبعة التاسعة -  صـ30، 31، 32، 33، 48، 50، 54، 55، 65
+
صـ37، 38، 57، 68 من الطبعة الأولى (1963).

[18] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 – صـ157.

[19] حديث لجريدة الأهرام بتاريخ 22/2/2007.

اقرأ أيضا: