إنه الاقتصاد يا غبي!
على الرغم من أن الكثيرين لا يعلمون عن كندا سوى أنها "بعيدة وبرد"، إلا أن خبر انتخاب "جاستين ترودو" لرئاسة وزراء كندا كان واحدا من أكثر الأخبار انتشارًا على شبكات التواصل الاجتماعي في هذا الجزء من العالم، في الأغلب لأنه (ترودو) "وسيم" ويعتبره الكثيرون شابًا (رغم أنه يندرج لغويًا تحت تصنيف "كهل") ومثله من السياسين "الخواجات" يتم الاحتفاء بهم على شبكات التواصل الاجتماعي المصرية على طريقة قاسم السماوي "جتنا نيلة في حظنا الهباب".
وبعد أن فتر اهتمام الجمهور بتعليقات الحقد والحسد على السن والشكل، تحولت التعليقات إلى الترويج لسماحة رئيس الوزراء الجديد مع الأديان وتحديدًا الإسلام حتى أنه يأكل البرياني مع الباكستانيين في المسجد مرتديًا زيهم الشعبي. ووسط هذا الاحتفاء والاحتفال انتشرت صورة لرئيس الوزراء وهو طفل يحمله أبيه حين كان يشغل ذات المنصب من قبل.
أول ما يخطر ببال أي عاقل يعيش في هذا الجزء من العالم هو أن الصورة لقطة جميلة "للتوريث". ولكن لسبب ما لم يكن "التوريث" عنوانًا للصورة ولو حتى من باب السخرية.
ففي الشرق الأوسط الحزين (ما عدا دولة أبناء العم) ترتبط فكرة التوريث في أذهان الكثيرين بالديكتاتورية والفساد حتى أن الأغلبية ستنكر أن العالم المتحضر يُورث المناصب والمهن كما نُورثها نحن بالضبط.
ما لا تعلمه هذه الأغلبية المستنكرة والمتحسرة على حالنا أن العالم المتحضر يورث المهن كما يورث المناصب. حتى أن استفهامات شبيهة بما يطرح هنا تطرح هناك.
إذا أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية كمثال بصفتها قائدة العالم والمدافعة عن الحرية وناشرة الديموقراطية سنجد أن العائلات السياسية لها نفوذ في المشهد السياسي الأمريكي منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية.
عائلات مثل بوش، وكينيدي، وروزفلت، وروكفيلر، وكلينتون، وآدامز وغيرهم من العائلات مارست السياسة وورثتها بين أعضائها. ولا تتوقف ظاهرة التوريث السياسي عند الولايات المتحدة فحسب بل توجد في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا كما توجد في الديموقراطيات الأسيوية مثل الهند (نهرو – غاندي). وحتى كوريا الجنوبية انتخبت ابنة الجنرال بارك لتشغل المنصب الذي شغله والدها يومًا.
التوريث السياسي ظاهرة موجودة في كل أنحاء العالم ولا تقضي عليها "الديموقراطية"، بل على العكس يمكن القول بأن الديموقراطية تدعم التوريث السياسي.
لماذا وكيف؟
تخيل معي عزيزي القارئ بأن فلان فتح "دكان للبقالة"، هذا الفلان بذل جهدًا مع الموردين حتى يحصل على أرخص الأسعار وأعلى جودة. وهذا الفلان بذل جهدًا في "تربية الزبون" وأصبح هذا الفلان "علامة" في مهنة البقالة. ماذا يفعل هذا الفلان بثروته؟ والثروة هنا ليست مالًا متراكمًا فحسب، بل مال وسمعة وخبرة. بالطبع سيورث فلان بقالته لأبنائه أو أحدهم على الأقل. فالابن الذي سيتربى في أجواء البقالة في الأغلب سيصبح شغوفًا بهذه المهنة وربما يخطط ليطورها، أو ربما يرسم أبيه خطة التطوير ليمشي عليها. المهم أن الأبناء أو أحدهم على الأقل سيتصدى ليرث مهنة أبيه للحفاظ أولًا على الثروة ولأن هذه الثروة ستيسر له تراكم المزيد من الثروات.
العائلة السياسية تشبه عائلة البقال في المثال السابق، تتوارث شبكات العلاقات من أصدقاء وداعمين وممولين والأهم تتوارث "الاسم". هذا الإرث هو الثروة التي ستساعد على تراكم المزيد من الثروات. تورّث إذن السياسة كما تورث البقالة (وباقي المهن) لأسباب اقتصادية بحتة.
وتدعم الديموقراطية استمرار التوريث السياسي كما تدعم السوق الحرة استمرار صاحب البقالة، فصاحب البقالة صاحب "السمعة الحسنة" وشبكة التوريد ذات الأسعار الأرخص والجودة الأعلى سيحافظ على "زبونه" ويجتذب غيره. وسيستمر في النمو طالما حافظ على تنافسيته في السوق.
العائلات السياسة كذلك، يضمن أعضاؤها انتخابًا واحدًا على الأقل بناء على السمعة السابقة، فإن أبلوا بلاءً حسنا أعيد انتخابهم وزادت فرص أعضاء آخرين في العائلة في الوصول لمناصب أخرى وهكذا.
هل التوريث فساد؟
تأتي شبهات الفساد من احتمال الممارسة الاحتكارية في حال تراكم الثروة. ففي السياسة كما التجارة، إذا كان المنافس كبيرًا بما يكفي يمكنه أن يتحكم في السوق. والاحتكار فساد لأنه يصب في صالح المحتكر فحسب. وفي السياسة كما التجارة، الهدف من العملية ككل هو تحقيق مصلحة طرفيها. وطالما وجدت المنافسة لا يوجد فساد، فالمنافسة (حتى وإن شابها بعض عدم العدالة كالمنافسة الاحتكارية) تحقق نوعا من التوازن بين مصلحة المستهلك (الناخب) ومصلحة مقدم السلعة / الخدمة (السياسي). وفي السياسة كما في التجارة المنافسة الكاملة لا توجد سوى في الكتب.
*العنوان شعار الحملة الرئاسية لبيل كلينتون 1992