التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 06:01 ص , بتوقيت القاهرة

الموظفون في الأرض

الموظفون في الأرض هو عنوان فيلم مصريّ من إنتاج عام 1985 من بطولة فريد شوقي وصلاح السعدني وسمية الألفي وليلى علوي، يدور حول قصة مدير عام بإحدى شركات القطاع العام، يتم عرض رشوة عليه فيرفضها، ولكن احتياجه الشديد للمال لدفع نفقات تزويج ابنتيه يدفعه إلى احتراف التسول سرا، قبل أن ينكشف أمره ويواجه الفضيحة والسجن؛ ليقف في ختام الفيلم مؤكدا أنه لم يكن أمامه خيار إلا التسول أو السرقة فاختار التسول.

الفيلم عموما يُكرّس لعدة مفاهيم غريبة فهو مثلا يشير إلى كون الموظف شريف ليقول لك إنه سينحرف إذا لم تحل مشكلته وهو ما يكرره فريد شوقي طيلة الفيلم، وكأنّه لا يعرف طبيعة مرتبه أو كأنه لا يعلم منذ عقود أنه قد أنجب ابنتين، وأنه يحتاج للادخار لأجل نفقاتهما، أو كأن الزواج بيعة وشروة من المهم أن تساير فيها نمطا اجتماعيا، يهدف للتنافس والمبارزة أكثر مما يهدف لسعادة شخصين بأقل تكاليف ممكنة، أو كأنّ التسول ليس جريمة أو كأنّ مشكلة التسول الوحيدة هي في العار الاجتماعي وليس في كونه هو ذاته عارا شخصيا يلحق  بكلمن يحاول أن يصور نفسه كعنصر فاعل مستحق لأجره في أي مجتمع.

عموما ليس الهدف هنا نقد فيلم مر على ظهوره ثلاثين عاما، رغم أنك بالتأكيد ستلاحظ أنه قد مر هذا الزمن الطويل الذي زادت فيه الأجور ودخول المواطنين عموما عدة مرات، ومع ذلك فسوف تسمع نفس الشكوى لأنه بطبيعة الحال كلما زادت الأجور أو الدخول عموما دون زيادة مناظرة في الإنتاج الحقيقي، فإنّ ما ينتج هو التضخم وارتفاع الأسعار، وليس الرفاهية بطبيعة الحال، وباختصار فالفيلم مثير للانتباه لكونه يعبر عن طريقة التفكير المصرية، التي ترفض تغيير عادات بالية في الزواج والمظهرية وفي التخطيط للمستقبل وفي العمل، وتريد أن تصل بنفس المنظومة الفاشلة القديمة إلى نتائج إيجابية، وإلا فإنّها تصب اللعنات عليك باعتبارك سبب كوارثها التي لن تحل أبدا أو ترتكب أي نوع من المخالفات تذرعا بحجج غريبة من عينة (وأنا أعمل إيه) أو (على قد فلوسهم)، وصولا إلى (الحكومة بمرتباتها دي هي اللي عاوزانا نفتح الدرج) إلخ.

 إنهم لا يناقشون لماذا قبلت العمل طالما أنه لا يعجبك ولماذا لا تقوم بواجبك دون انتظار الشكر ولماذا كفاءتك منخفضة ولماذا تقضي وقت العمل في الأكل وقراءة الجرائد والتعبد والثرثرة وأي شيء إلا العمل.

هناك قطاعات كاملة من موظفي القطاع العام لا يتواجدون في أماكن عملهم أكثر من أربع ساعات أسبوعيا، بدءا من بعض أساتذة الجامعة إلى الأطباء الكبار في المستشفيات الحكومية، رغم تواجدهم جميعا يوم استلام المرتب، وحتى أولئك الذين يقضون ساعات دوامهم كاملة أو بعضها مفضلين التزويغ فإنّهم لا يعملون في الحقيقة بأكثر من ساعة يوميا كمتوسط.

لماذا اعترض هؤلاء إذن على قانون الخدمة المدنية الجديد. وما المنتظر في ظل وضع مزري كهذا؟

الأجور التي كانت تشكل 45 مليار جنيه عام 2005 أصبحت 70 مليار جنيه عام 2010 ثم أصبحت 210 مليارات جنيه في العام الحالي. أين ذهبت كل هذه الأموال التي تضاعفت فيها الأجور في الموازنة خمسة أضعاف في عشر سنوات؟ فهل زادت كفاءة الخدمات خمسة أضعاف؟ بالعكس كلها تردت بالذات في القطاعات التعليمية والصحية والخدمية، رغم أن غالبية العاملين هناك يعملون في وظيفة أخرى لحسابهم الخاص أو لا يقومون بعملهم الأساسي أصلا بخلاف أنهم يسعون دائما لفرض منظومتهم القيمية على المواطن مقابل استنفاع بالخدمة سواء في المصالح الحكومية أو المدارس أو المستشفيات.

في الاقتصاد المصري عيوب هيكلية بالتأكيد لكن سر المشكلة الأكبر هو حجم القطاع العام المتضخم؛ مما يستلزم حزمة إجراءات لتقليصه لم تتجرأ أي حكومة مصرية على تنفيذه منذ عقود بفضل مجموعات من مقدسي التنبلة الذين ينشطون في المجال العام بتأثير الأفكار الاشتراكية.

الغريب أن هؤلاء المناضلين المزعومين لتحقيق حرية المواطن لم يفهموا أبدا أن توسع وزيادة العاملين في القطاع العام هو السبب الرئيسي وراء مشاكل الفساد والإهمال من جهة ومشاكل التضخم والتسقيع العقاري من جهة أخرى، بل ومشاكل المنظومةالسياسية كذلك من جهة ثالثة.

وحده الغبي لا يدرك أن زيادة حجم القطاع العام سيزيد من حجم تدخل السلطة في المناخ العام، وأنه لا يمكن أن تتوافر حريات سياسية في بلد يكون حجم القطاع العام فيه كبيرا، لأنه ببساطة كل هذا العدد من الموظفين يصبح قوة ضاغطة على السلطة دون أن يتخلي عنها على طريقة لا بحبه ولا قادر على بعده أو على طريقة اللي ييجي منه أحسن منه؛ مما يجعله يقوم بدور سلبي مزدوج، فمن جهة هو يكرس الاستبداد ويحول الدولة كلها إلى مرؤوس ورئيس ومن جهة أخرى فهو عرقل بالضغط أي محاولة لإصلاحه.

المعارضون لديهم مزاعمهم المعتادة، نفس الذين طالبوا بتعيين عشرات الآلاف من أقاربهم غالبا ثم عادوا ليحدثوك عن رفض الوساطة، بل وقننها بعضهم بفرض نسب لأبناء العاملين، وكأنها تكية يملكونها، هم ذاتهم الذين طالبوا برفع الحد الأدنى للأجور، هم ذاتهم الذين يرفضون التخلي عن المهملين هم أنفسهم الذين يشكون الإهمال والفساد، هم من سيحدثونك عن المحسوبية ثم سيرفضون أي وسيلة لتقييم أداء العاملين. ببساطة أنهم جميعا كفريد شوقي في الفيلم لا يريدون تغيير أنفسهم إلا لوضع تبريرات لارتكابهم مخالفة، أما أي تغييرات جادة فسوف يقاومونها.

النفاق الحقيقي أن تجد بعض مرشحي البرلمان من اليساريين يصرحون في جلساتهم الخاصة أنهم سعداء بصدور القانون الآن حتى لا يضطروا لمناقشته فيتهمهم أنصارهم بخيانة مبادئهم، ومع ذلك يصرحون علنا بأن صدور القانون في غياب البرلمان هو تعد على سلطة البرلمان في التشريع.

فوجه الاعتراض الحقيقي لغالبية المعترضين ليس ما يزعمون لكنّ تخوفهم من تنفيذ القانون بجدية لأنهم يعلمون أن القانون القديم كان حبرا على ورق وكان يجعل الموظف أقوى من المنظومة ككل، وبالتالي فالمعركة ليست هنا معركة على نصوص القانون بقدر ما هي اختبار لإرادة وجدية الحكومة في تنفيذ خطتها.

لو أن الحكومة تبنت الإصلاح فيما يتعلق بالقطاع العام منذ عام 1974 الذي أطلقت فيه سياستها للانفتاح الاقتصادي، لكننا الان  وبعد أربعين عاما قد انتهينا تماما من مشكلة تضخم عدد العاملين، ليتبقي لدينا معالجة أثرها  المالي على الموازنة فيما يتعلق بأصحاب المعاشات من العاملين السابقين، ولكن الحكومة والمعارضة والإعلام والمثقفين تبنوا خطابا يُشخّص المشكلة تشخيصا خاطئا، ناشرين فكرا لا يقوم أبدا على الكفاءة ولا الإنتاج.

قانون الخدمة المدنية ليس في حالة مثلى بالتأكيد لأنه لا يزال يتبنى خطة إصلاح طويلة الأمد للغاية لكنّه يبقى أفضل من أن نظل ندلل التنابلة من الموظفين في الأرض.

 

اقرأ ايضا