التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:07 م , بتوقيت القاهرة

جمال حمدان.. أسعدنا حضورك

أسعدتني إشارة الرئيس السيسي إلى عالم مصر العظيم الدكتور جمال حمدان  في كلمته أثناء حفل افتتاح قناة السويس، وهي اللفتة التي كانت بمثابة تكريم لراهب نذر عمره وقريحته، للتبشير والتبصير بوطن متفرد في جغرافيته وتموضعه المكاني والجيوستراتيجي، ذلك الموقع الذي منح مصر الكبرى بهاءها وتفردها في محيطها. عبقرية التموضع تلك Positioning تنتظر فقط من يستنهض مكنونها، وينهل من فضائلها ومقوماتها من الأبناء، ليستنطق واديها وطميها، ويروض صحراءها وحجرها، ويزيل الصدأ العالق بشخصية الفرد كي يستلهم شخصية المكان، وينطلق بهذا الوطن إلى رحاب التطور والرقي بالعلم والعقل وليس بالتغييب والاتكالية.


جمال حمدان النبي والنبوءة، العراف الذي قتله الصمت والتجاهل والوحدة، فمات مُغتالا في شقته بعد حريق غامض وملابسات مريبة حول الكيفية التي رحل بها عالم مصر العظيم في يوم خماسيني من ربيع عام 1993، وكما كان وجود جمال حمدان استثنائيا في زمن كانت مصر الكبرى فيه قد تخففت من كل أدوات قوتها الصلبة والناعمة وراحت تغط من جديد في غيبوبة الفكر الخرافي، وقمامة تخريجات العصور الوسطى، ومخلفات الوهابية والهوس الديني، كانت مصر قد فرغت قبل شهور وتحديدا في يونيو 1992 من التخلص من مفكرها فرج فوده 47 عاما بفتوى وهابية أتمت اغتياله بخسة.


 وكانت مصر بعد ذلك بأقل من عامين على موعد مع طعن أديبها الكبير نجيب محفوظ بسبب رواية أولاد حارتنا، في تلك الأجواء كانت الوهابية وما زالت تمرح في كل أرجاء مصر في الزوايا والمساجد والميكروفونات الزاعقة بالصراخ، لتبدل العقول والأزياء وتسحق الذائقة المصرية المتسامحة والمُحبة للحياة والخير والجمال. بدا رحيل جمال حمدان أيضا وكأنه استجابة قدرية لسياق سرطاني يستشري بالهوس في أركان طيبة الطيبة، فكان الرحيل استثنائيا بالموت منكفئًا على كتبه في شقة صغيرة بعد حريق استخباراتي مفتعل من جهات تكره أن يستيقظ عقل مصر الجميل.


أتذكر ذلك اليوم، كنت مستدعيًا استدعاءً روتنيا لكتيبة عسكرية، وقرأت الخبر في زواية صغيرة بصفحة الحوادث بجريدة الأخبارعن مصرع أستاذ وعالم جغرافي اسمه جمال حمدان محترقا في شقته، وهو الأمر الذي نفاه الطب الشرعي بعد ذلك، كنت أحدق في وجوه الجنود بالقطار الحربي المتحرك من محطة عين شمس إلى السويس وأتساءل من منهم يعرف جمال حمدان؟


 ترى هل أستطيع أن أوقف الجدل المحتدم بين الجنود في القطار حول مشاركة الأهلي والزمالك في بطولة إفريقيا وأنعي إليهم نبي هذا الوطن الذي بشر بمصر الكبرى، وتنبأ بكل ما حدث منذ الستينات، وسبق صامويل هنجتون وفوكاياما باستشرافه للتحولات الكبرى وسقوط الشيوعية وانحسار مصر عن مجالات تأثيرها الحيوية الثلاث الإفريقية والعربية والمتوسطية. هل يمكن أن أكون من الجنون لأحدث الرفاق من الجنود عن رجل أحبهم وأحب مصر، وانكب تحت قدميها يكتب كتاب الإحياء والانبعاث لها من رماد قرون التخلف، والقيادة تحت تأثير مخدر الخرافة والهوس. حمدان رجل مثلهم من طين هذا الوطن من قرية من قرى القليوبية، هل يمكن أن تحدث تلك الوجوه عن رجل نادر كان وجوده استثنائيًا، وكان خروجه من ذلك الوجود أيضًا أمرًا استثنائيًا.


غادر جمال حمدان وجودنا الفيزيائي بطريقة غامضة ومريبة، الأمر الذي دفع بالسيد أمين هويدي الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات أو المخابرات كما يسميها العامة، ذلك الرجل الفذَّ والمحلل الاستراتيجي الراحل إلى التأكيد أن لديه ما يثبت أن أجهزة دولية اغتالت حمدان صاحب موسوعة " شخصية مصر – دراسة في عبقرية المكان"، وهي الفرضية التي لا يمكن استبعادها على أية حال لا سيما وعلماء مصر كانوا الهدف السهل Soft Target بالتعبير العسكري لأجهزة دولية وإقليمية لا تريد خيرا لمصر.


 أما مبعث سعادتي بإشارة الرئيس السيسي إلى جمال حمدان، فلكونها ربما تكون أول تكريم يناله الرجل في وطنه، أول تكريم لمصري حقيقي في وطن، يمكنك أن تمر في شوارعه لتلمح الغرباء وقد سمينا الشوارع والمدارس بأسمائهم، لي صديق يعيش في شارع اسمه مالك الخثعمي، وليس لدي أصدقاء يعيشون في شارع جمال حمدان، إذ لا يوجد شارع أو ميدان باسم جمال حمدان وسط الشوارع والمدارس في وطن تملّكت منه البداوة والرجعية الفكرية، يقبل أن يسمي مدرسة باسم ناقة أو بعير عن تسميتها باسم كاموس أو أحمس محرر مصر من الهكسوس الرعاة.


مبعث سعادتي هو أننا أخيرًا ومن أعلى هرم إدارة الدولة وجهنا دعوة سامية إلى جمال حمدان للمشاركة في حفل التدشين، أدركنا القيمة العبقرية لوطن يدور في مجرة التفرد، التي أماط جمال حمدان اللثام عنها قبل أربعين عاما، مدارات من تفرد المكان والشخصية، شخصية مصر، مدارات لو أُحسن توظيفها على نحو تنموي وإستراتيجي لدفعت بمصر إلى الأمام بين الأمم وقد كان ذلك جل اهتمام جمال حمدان، وهو يستشرف المستقبل بخلطته العبقرية جغرافيا المكان وتأثيرها الاستراتيجي.


تداعت رؤى جمال حمدان إلى عقلي وأنا أتابع سيل التحليلات المغرضة، والتي تنقصها الأمانة العلمية عن قناة السويس، المدهش في الأمر أنني تابعت أغلب التحليلات الصادرة عن صحف غربية، منها المؤيد والمرحب، ومنها المشكك، بعض التقارير الصحفية التي استند إليها المشككون وجميعها تعرض للموضوع من زواية مدى الحاجة إلى ازدواج المجرى الملاحي الآن، عطفا على توقعات النمو في حجم التجارة العالمية، وهي تحليلات بعضها لا يخلو من هوى وغرض، فالعالم كله يعرف أن مشاريع منافسة لقناة السويس كانت حبيسة الأدراج قد خرجت إلى النور وأن تنافسية المجرى الملاحي ستصبح على المحك لو لم تبادر مصر بزيادة تنافسية القناة بتطويرها وجعلها الممر الأكثر جاذبية للتجارة الدولية.


تجاهلت كل التعليقات السلبية، حقيقة أن اكتمال ازدواج الممر الملاحي ما هو إلَّا حلقة من مشروع ضخم  لمنطقة اقتصادية ولوجستية كبرى SCZone استلهامًا لرؤى الراحل جمال حمدان عن قدرات هذا الوطن. كنت أتابع منذ عام سيل التشكيك وتثبيط العزائم وإحباط الهمم حتى إذا ما تبين تهافتها وصدورها عن غرض راحت تلك المصادر المشككة تنتج دعاوى جديدة للتشكيك تتوالد بسذاجة ودونما سند من منطق، للحط من شأن منجز بناه المصريون بأموالهم وعرقهم في وقت قياسي.


ليس مهما المسميات، تفريعة، مجري موازي، قناة مكملة أو حتى طشت كما قال أحد المهاويس، المهم هو قدرتنا على الإنجاز، فالمؤكد أن رؤساء دول بعضها عظمى لم يحضروا إلى مصر للمشاركة في افتتاح وهم وخداع  وقد وفدوا من بلاد لديها أجهزة استخبارات ومراكز فكر اقتصادي وبحثي لديها تقديراتها الخاصة بها.


فرحت مصر ومن حقها أن تفرح، تلك كانت محطة صغيرة في رحلة قطار التنمية وإيقاظ المارد، فلنتواضع ولنكمل ما خطه وتنبأ به جمال حمدان ضيف الشرف الأهم بين حضور حفل الافتتاح. الحاضر العظيم جمال حمدان أسعدنا حضورك يا سيدي وسنكمل الرحلة.