التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:18 ص , بتوقيت القاهرة

مستشفيات مصر والحلول السحرية

زيارة رئيس الوزراء إبراهيم محلب لمعهد القلب، التي انتهت بقرارات علنية لإقالات وتغييرات بخصوص هيكلها الإداري، وبفيديو واضح عن اعتراضه على سوء مستوى الخدمة فيها، أثارت توابع تستحق التأمل.


الوعى العام في مصر يفسر سوء الخدمات الطبية الحكومية بسبب واحد، وبنفس الطريقة المعتمدة شعبيا من عقود وعقود لتفسير أى مشكلة (الفساد - الفشل الإداري - ظلم الحكومات.. الخ). وفي أغلب ردود الأفعال على الزيارة سواء في المقالات والتحقيقات الصحفية، أو التعليقات في السوشيال ميديا، ستجد نفس الشىء غالبا فقط للأسف.


الخدمة الطبية مثل أي خدمة أخرى، عبارة عن تكلفة مادية بالأساس. تكلفة يمكن تلخيصها هنا ببنود أساسية مثل (بناء مبنى المستشفى - شراء أصول تتمثل في أجهزة ومعدات طبية ثابتة - أجور شهرية للأطباء والممرضين والموظفين - تكاليف صيانة دورية للمبنى والأجهزة - شراء أدوية ومستلزمات طبية شهريا).


كل ما سبق ضروري لتصبح المستشفى أو العيادة مؤهلة لتقديم خدمة طبية، ولا يمكن بدونه أن تحصل على خدمة جيدة أيا كان مستوى الإدارة والموجودين. كيف يمكن لطبيب مهما كانت مهارته، أن يحدد مشكلتك بدون أجهزة فحص وتحليل متوفرة وسليمة؟.. كيف يمكن علاجك بدون أدوية؟.. كيف يمكن إسعافك بدون مستلزمات أساسية بسيطة مثل الشاش أو خيط الجروح؟!


توفر الثروة في يد الحكومات يوفر الحل لأي مشكلة، لأن المال يشتري كل شىء (الخبرات الوظيفية - الخبرات الإدارية - السلع والمعدات التي تحتاجها الخدمة.. الخ). 


النقطة الأخرى تتعلق بالعدد، إذا افترضنا مثلا أننا سنخصص مليار جنيه شهريا إجمالا للعلاج، سنحصل على نتائج متباينة مع تخصيص الرقم لعلاج (مليون فرد - 10 ملايين - 50 مليونا - 100 مليون). 


عالميا توجد طريقتان لتوفير الثروة مع الحكومات للإنفاق بشكل جيد على الخدمات، مع مراحل متدرجة ومشتركة بين الطريقتين في بعض الدول:


1 - الثروات الطبيعية والمزايا الخاصة:
النموذج الأشهر والأوضح في الخليج العربي. ثروة بترولية هائلة، مقارنة بعدد أفراد قليل في أغلب الدول. المشاكل هناك حلها سهل. استخراج وبيع الثروة الطبيعية، واستخدام العائد الضخم في شراء أو استيراد (الكوادر البشرية - الخبرات الإدارية - السلع والمعدات المطلوبة)، لتقديم الخدمة للعدد القليل الموجود. 


2 - العائد الضريبي:
دول أوروبا المتقدمة تمثل النموذج الأشهر والأوضح. مجتمعات متميزة مهاريا ومنتجة، يحقق أفرادها في المتوسط دخلا عاليا، يتم استقطاع جزء كبير منه للضرائب. مع وعى مجتمعي عام غير عاشق للإنجاب.


ألمانيا كمثال: عدد السكان عام 1970 كان أقل من 80 مليون فرد. عام 2015 بعد 45 عاما أصبح 82.5 مليون فرد. متوسط العمر الحالي بين السكان 46 سنة. وهو سن مُنتج، لدولة بطابع إنتاجي يميل إلى المجالات الصناعية والهندسية المتطورة. 


النموذجان على اختلافهما يقدمان في النهاية (معادلة اقتصادية ناجحة لتوفير الخدمات). معادلة لا تعتمد على التنظيرات والشعارات والسطور الدستورية والشكاوى والمزايدات. معادلة من الواقع العملي القابل للتطبيق.


مصر في المقابل لا ينطبق عليها أي مما سبق. نفتقد للثروات الطبيعية المهولة قياسا إلى عدد سيصل خلال سنوات بسيطة الى 100 مليون فرد. ومتوسط المستوى المهاري والإنتاجي الضعيف في أي مجال، يجعل متوسط دخل الفرد متواضعا، وبالتالي غير قادر على دفع قيمة ضريبية عالية سنويا، تسمح جملتها بتوفير ميزانية عالية للدولة للإنفاق على الخدمات.


يقابل هذا وعي عام يميل بشدة للزيادة السكانية، بسبب القناعات الدينية السائدة أولا. وبسبب القناعات الثقافية المستمدة من الأفكار الاشتراكية واليسارية الرائجة جماهيريا ثانيا. الأفكار التي تجعل توفير الخدمات للأبناء واجب الدولة بدلا من أن تكون بالأساس مسؤولية على الأبوين. النتيجة النهائية حنفية إنجاب مستمرة.


عدد المصريين عام 1970 كان 36 مليون فرد. عام 2015 بعد 45 عاما، أصبح طبقا لأغلب التقديرات 86 مليونا على الأقل. رجاء اصعد ثانية عبر السطور، واقرأ أرقام سكان ألمانيا لنفس المنحنى الزمني.


مع وعي عام، يجعل الإنتاج والعمل للطبقة المتوسطة والثرية مرهون بانتهاء الدراسة الجامعية. في الغرب ستجد المراهق المنتمي لطبقة متوسطة، يبدأ العمل والإنتاج في عمر 15 سنة مثلا، في أعمال لا تحتاج إلى خبرات.


استكمالا للمقارنة، نتحدث عن مجتمعات تنتج فيها المرأة اقتصاديا بشكل يماثل الرجل، بينما في مصر تسود حتى الآن فكرة أن العمل والعائد المادي واجب الرجل فقط، يقابله واجب منزلي للمرأة. مجتمع يريد أن ينتعش اقتصاديا بنصف واحد يعمل لإنتاج عائد مادي، بينما يختص النصف الآخر بإنتاج أطفال جدد (عبء مادي اضافي)!


الشكاوى المستمرة والصفحات التي تخصصت في نشر صور المشاكل في المستشفيات المصرية، ومقارنتها بصور من مستشفيات الخليج وأوروبا وأمريكا، مع تعليقات توجه الإدانة للحكومات فقط، نموذج لمن يضع يده على أعراض المشكلة، دون أن يواجه نفسه، بسبب التدهور المستمر والحتمي.


الطبيب الشاب معذور نسبيا في التوجه للشكوى فقط لسببين. الأول وجوده المستمر في وجة المدفع، باعتباره الطرف الذي يواجه شكاوى واتهامات المريض (وأحيانا شتائم ووقاحات وركلات أهله). والثاني أن طبيعة عمله وخبراته، لا تجعله الطرف المطالب بتقديم معادلات اقتصادية تعمل.


بالتأكيد حكومتنا ليست الأفضل في العالم. وأرحب جدا بعقاب المقصر، بشرط أن يكون مقصرا فعلا، وغير مطالب بتحقيق المستحيلات. لذا رجاء لا تنسى من جديد، وسط كل أجواء الشكاوى والمزايدات أن تتذكر الحقائق:


بناء مستشفيات جديدة = تكلفة.
تعيين أطباء وممرضين جدد لها = تكلفة. 
شراء أجهزة ومعدات طبية ودواء = تكلفة.
صيانة أي جهاز = تكلفة.
تجديد أرضيات وحوائط وحمامات مستشفى = تكلفة. 


المال لا يهبط في صورة أمطار. وبدون معادلة اقتصادية منطقية لتوفيره، لا قيمة ولا نفع متوقع من الشكوى. آجلا أو عاجلا، سنقيل وزير صحة ونعين آخر، سنقيل رئيس وزراء ونعين آخر، سنشيد بتصريح حكومي ونستنكر آخر، لكن كل هذه الفقرات للأسف لن تغير شيئا بشكل ملموس في المستوى النهائي، إذا صممنا على تجاهل أصل المشكلة.


لا يمكن لأي شخص انتاج خدمة خمس نجوم لـ 100 فرد، بمقابل مادي لا ينتج إلا خدمة نصف نجمة لـ 10 أفراد في أحسن الحالات.


لمتابعة الكاتب على الفيس بوك