التهجير القسري ومخالفة الدستور المصري
مما لاشك فيه أن عودة المواطنين المصريين المسيحيين إلى منازلهم بقرية كفر درويش، مركز الفشن، بني سويف يعتبر أمرًا إيجابيًا بعد أن أجبرهم بعض المتعصبين والأصوليين الدينيين في جلسة عرفية على التهجير القسري، على إثر قيام أحد أفراد هذه العائلة، والذي يعمل بالأردن بمشاركة صورة على صفحته على الفيس بوك اعتبرها البعض مسيئة للإسلام.
وماحدث في قرية كفر درويش من تهجير قسري للمسيحيين، ليس هو الحدث الأول ولن يكون الأخير طالما أن الأصوليين الدينيين والرافضين للآخر الديني المغاير هم المتحكمون عن طريق الجلسات العرفية في الشارع المصري، ومما يثير الغثيان والاشمئزاز إن هذه الجلسات العرفية والتهجير القسري تمتد من العامرية إلى رفح، ومن المطرية إلى دهشور، ومن منفلوط إلى دلجا، ومن أسيوط إلى نجع حمادي، ومن بني مزار ومغاغة ومطاي وسمالوط إلى قنا والأقصر وساحل سليم وسوهاج، وهكذا لم تسلم محافظة أو مركز مصري واحد من جريمة تهجير المسيحيين بصورة شبه ممنهجة، والقائمة لا تنتهي ولن تنتهي إذا استمر علاج المشكلات على المصاطب، وعدم تصدي الجهاز القضائي لهذه الجريمة.
وفي التهجير القسري يتم اقتلاع المواطنين من وسط عائلاتهم وذويهم وبيوتهم وأرضهم وذكرياتهم، دون الاهتمام بمصير هؤلاء الضحايا الفقراء بعد تهجيرهم، ودون دراسة من سيوفر لهم السكن والمعيشة، لذا فإن جريمة التهجير القسري يحظرها الدستور المصري في المادة (63) والتي تنص على:"يحظر التهجير القسري التعسفي بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم"، وكذلك هو جريمة تخالف المادة (95) التي تنص على أن "العقوبة شخصية" وليست جماعية بالتهجير القسري كما يفعل الأصوليون الدينيون في الجلسات العرفية والتي تتم أحياناً مع الأسف تحت رعاية أجهزة الدولة، الأمر الذي يخل بالحقوق الأساسية لمواطنين مصريين كفلها لهم دستور مصر الجديد، ويمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية المكفولة بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، فضلًا عن كونه يمثل جريمة ضد الإنسانية.
كما أن جريمة التهجير القسري تخالف المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي حظرت النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص أو نفيهم من مناطق سكنهم إلى أراضٍ أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.
كما أن هذه الجريمة الشنعاء تخالف المادة "7/1 د" من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي تجرم عمليات الترحيل أو النقل القسري، حيث تنص على أن "إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، يشكل جريمة ضد الإنسانية".
وبموجب المواد 2 و7 و8 من نظام روما الأساسي، فإن "الإبعاد أو النقل غير المشروعين" يشكلان جريمة حرب، الأمر الذي يرتب مسؤولية على الدولة أن تقوم بواجبها في التصدي لمن يرتكبون هذه الجرائم.
وكان من المخجل والمؤسف ألا يسلط التليفزيون الرسمي للدولة الضوء على هذه الجريمة الشنعاء التي تحدث في إحدى القرى المصرية، لدرجة أن أحد المتعصبين داخل مبنى ماسبيرو، والذي ينتمي غالبًا للخلايا الإخوانية، هدد المذيع اللامع الأستاذ عاطف كامل مقدم برنامج "اقرا الخبر" الذي تبثه القناة الأولى مساء كل يوم، بقطع الهواء على مقدم البرنامج إذا ذكر موضوع التهجير القسري، وبالطبع هذا الأمر وغيره يتطلب تطهير مبنى التليفزيون وغيره من مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية من المتعصبين الذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين.
إن الإساءة لأي دين من الأديان هو أمر مرفوض تمامًا، ومن هنا يتحتم ضرورة إخضاع أي متهم لقاضيه الطبيعي، وأن يتم التحقيق في أي اتهام وإثباته من عدمه عبر الإجراءات والقواعد القانونية المتعارف عليها وفقاً للدستور المصري، أما جلسات الصلح العرفية التي تحدث عند أي مشكلة تحدث بين المواطنين المصريين والتي يتم على إثرها العقاب الجماعي المتكرر للمسيحيين، فهي تُعد خارج إطار القانون والدستور، الأمر الذي يمثل تهديدًا خطيرًا لوحدة النسيج الوطني المصري ولسيادة القانون، فحتى متى يتم توقيع العقاب الجماعي لكل العائلة بل لكل المنتمين للدين عندما يخطئ أحد الأفراد المنتمين لهذا الدين؟! هل أصبحنا في غابة تحكمها شريعة الغاب؟ وهل أصبحت تحكمنا القوانين العرفية وغاب عنا القانون والدستور ومواثيق حقوق الإنسان التي تجرم التهجير القسري للمواطنين؟!!
على الدولة المصرية أن تنهض وتقوم بمسؤوليتها الدستورية في حماية حقوق المواطنة بقوة القانون، الأمر الذي يتطلب سرعة عودة جميع المسيحيين المهجرين منذ سنوات إلى منازلهم التي تم تهجيرهم منها في القرى المصرية المختلفة؛ وكذلك عودة ممتلكاتهم المنهوبة واسترداد التعويضات التي أُجبروا على دفعها للمتطرفين الذين سلبوا أموالهم، تحقيقًا لسيادة القانون وضمان احترام حقوق الإنسان الأساسية، مع توفير الحماية الأمنية الكاملة لهم من أي فعل انتقامي من قبل المعتدين، كما يتحتم سرعة القبض على المتسببين في هذه الأحداث ومحاكمتهم بشكل عاجل وعادل، حيث إن جريمة التهجير القسري لا تسقط بالتقادم، كما أن الأمر يتطلب تحذيرا صارما لعُمد القرى بالفصل من العمل في حالة قبولهم لمبدأ التهجير القسري لأي مواطن، وكذلك تقع على الشرطة وقياداتها والأمن الوطني مسؤولية حماية المواطنين المسيحيين وعدم التحيز ضدهم، وأن يباشر رئيس الجمهورية بنفسه ملف العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها.
كذلك لابد من التعجيل بإصدار التشريع الخاص بـ "مفوضية تكافؤ الفرص وعدم التمييز" المنصوص عليها في المادة ( 53 ) من الدستور المصري لتتعامل بشكل أوسع مع مثل هذه الانتهاكات، وكذلك تكليف المجلس القومي لحقوق الإنسان بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق فيما يخص جرائم "التهجير القسري ودور أجهزة الدولة فيها، ولابد من وضع برامج تعليمية وثقافية وإعلامية تعمل على نشر ثقافة المواطنة وقبول الآخر، لإعادة التماسك إلى النسيج الوطني المصري حفاظًا على وحدة الوطن التي باتت مهددة.
كما أن الأمر يتطلب سن قوانين تعاقب على التمييز ضد أي مصري بسبب الدين، أو الجنس، أو العرق، أو اللون، أو المستوى الاجتماعي، ويتحتم وجود عقاب مشدد لكل من أجبر أو حبذ أو سهلّ التهجير القسري أو التعسفي لفرد بسبب انتمائه الديني أو العرقي أو الاجتماعي أو لجماعة من الجماعات ذات انتماء ديني أو عرقي أو اجتماعي مشترك، من مكان إقامتها المعتاد إلى مكان آخر دون رضاء، ولا يعتد بالرضاء إذا تم تحت تهديد مادي أو معنوي أو خشية مبررة على حياة أو أموال الجماعة أو الأفراد محل التهجير حتى ولو تم بتدخل من ممثلى السلطة العامة، وفضلاً عن ذلك يعاقب بالعزل من الوظيفة كل موظف عام ارتكب جريمة التهجير القسري أو شارك فيها بأية صورة، ولا يُعد من قبيل التهجير القسري أو التعسفي عمليات الإجلاء الدائم أو المؤقت أو نزع الملكية للمنفعة العامة التي تقوم بها الدولة لممتلكات أفراد أو جماعات من السكان بدون تمييز ديني أو عرقي أو اجتماعي لأهداف التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية طبقاً للقانون مقابل تعويض عادل.
إن الأفكار الداعشية الرافضة للآخر المغاير والمشرفة على عمليات التهجير القسري لا يجب أن تتحكم في الشارع المصري بهذا الشكل الفاضح
فمصر التي كانت "أم الدنيا"
والتي نحلم بأن تكون "أد الدنيا"
لايجب أن تهبط وتنحدر لهذه المستويات "الدنيئة والدنيا" !!