التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 04:43 م , بتوقيت القاهرة

ما معنى الإصلاح الديني؟ (2)

إنسان ما بعد الحداثة يكتسب أهميته من ذاته، إنه مبدأ يعرف باسم "الفردانية"، يكتسب فيه الإنسان حقوقه لا بسبب انخراطه ضمن "جماعة" معينة أو اعتناقه لعقيدة بعينها، بل بسبب التزامه بقوانين "بلد" ما وانتمائه لها، وهو مبدأ يعني- ضمن ما يعني- أن الدين شأن فردي، لا يشترط أن يمارسه الإنسان، بحسب ما توافقت عليه جماعة ما، بل كما يجد فيه لنفسه الراحة النفسية والطمأنينة الروحية. وهو أمر ينسحب أيضًا على أداء الإنسان لطقوس هذا الدين الذي اختاره بمحض إرادته. وتكمن أهميته بجانب أنه ركن أصيل من أركان الحرية أنه يقلل من النفاق المتفشي في مجتمعنا، وكدت أن أقول يُجهِز عليه. 

هذه النقطة الأخيرة لابد وأن تقودنا إلى مسألة شائكة أخرى، هي مسألة المساواة؛ تلك القيمة التي أنتجتها الحداثة، ويجب ترسيخها في عقل المسلم كحق للآخر. أعني أن يقتنع المسلم بأن المغاير له في الجنس والدين؛ أي المرأة والمسيحي مثلاً، يقفان معه كمواطنين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، فلا يعود ينظر للمرأة على أنها ناقصة عقل ودين لها نصف الحقوق ونصف الميراث  والشهادة، له عليها القوامة ولها عليه الطاعة.. إلخ. ولا يعود ينظر للمسيحيّ على أنه ذمي؛ سقف حقوقه أن نعطف عليه ونحميه. وهو أمر في الحالة الأولى سيصطدم بالمزايا الاقتصادية وفي الثانية بالشعور النرجسي الذي طالما رسخه الفقهاء في ذهن المسلم باعتباره صاحب الدين الحق الوحيد، ومالك صكوك الجنة المحرمة على الكفار.

إنسان ما بعد الحداثة لا يؤمن بالحقائق المُطلقة، بل بالحقائق النسبية. يعتقد أن لكل ظاهرة أكثر من حقيقة، تختلف باختلاف زاوية النظر إليها. وهو أمر عند تطبيقه على الدين، في سعينا نحو تحديثه، سيُفضي تلقائيًا إلى تفكيك فكرة الأرثوذكسية الإسلامية؛ تلك التي تعتقد أن للنص تفسيرًا واحدًا، وما عداه باطل، وأن هناك فرقة واحدة تقتفي صحيح الإسلام وما عداها فرق ضالة توصف بأوصاف من قبيل كلاب النار، وسيغدو معه كل تفسير للنص يحمل جانبًا من حقيقة النص، وكل فرقة تعد تمثلاً لوجه من أوجه الإسلام؛ حتى تلك التي صب عليها الجميع لعناتهم من قبيل فرقة الخوارج على سبيل المثال. 

والأهم أنه أمر سيلغي مشروعية المؤسسات الدينية التي تحتكر لنفسها فهم الدين حصرا، وتقف بالمرصاد، عن طريق حراس المعبد، لكل محاولة تطرح قراءة مغايرة لقراءتها. ولا يخفى على فطِن أنها لا تفعل ذلك إلا دفاعًا عن مصالحها المادية، ومكانتها المعنوية. وهو أمر يعني، من زاوية أخرى، أن مسألة الإصلاح الديني لابد وأن تمر عبر نقد المؤسسة الدينية الرسمية، لا أن تُكلف هذه المؤسسة بأداء تلك المهمة. ونود هنا التأكيد أيضا على أن القراءة الجديدة للدين، تنطلق من مقاصد النص، وتسير في اتجاهه، نعم لا تلتزم بحرفيته، لكنها في الوقت ذاته لا تُحمله أكثر مما يحتمل.

هذه النقاط التي أوردناها للتو، لا بد وأن تقودنا تلقائيا إلى مقولة لطالما تم ترديدها عبر القرون، مقولة تتنافى بالكلية مع نسبية الحقائق، أعني مقولة: الإسلام صالح لكل زمان ومكان. إذ لا بد لكل محاولة للإصلاح أن تضع تلك الفرضية التي تحملها المقولة على طاولة البحث، لأنها تتنافى مع مبدأ التاريخية، وكذا مبدأ نسبية الحقيقة. وهي مقولة يجب معالجتها بكثير من الرصانة؛ إذ يجب قبل مناقشتها أن نحدد حدودها، بأن نوضح ما هو الإسلام المقصود، فنفصِل بين الإسلام من حيث هو عقيدة ومُثل عليا يشترك فيها مع بقية الأديان، وصالحة لكل زمان ومكان، ومن حيث هو مجموعة أحكام صاغها الفقهاء بحسب مقتضيات عصرهم وما أتاحه لهم من معارف. بما يعني أنه عند مستوى العقيدة تعد المقولة صائبة، بيد أنها عند مستوى الأحكام لا تعد كذلك على الإطلاق. فالأحكام أو التشريعات أو القوانين في نظر إنسان ما بعد الحداثة تحددها المصلحة ومتطلبات الحاضر، لا نصوص الماضي، التي بلا شك كانت قد خُلقت من أجل مصالح من عاشوا في حينها.

لا إصلاح ديني بدون فك الارتباط القائم في الذهنية الإسلامية بين الدين والدولة. فما دامت الأمور نسبية، وطالما لا وجود للحقائق المطلقة، ولأن كل فعل وكذلك كل نظام مشروط بشروط تاريخية حكمت وتحكم سياقه؛ إذن فمقولة الخلافة فريضة إسلامية لا محل لها من الإعراب. فلا فريضة فيما يخص نظم الحكم وسبل إدارة الدولة سوى مصلحة الأمة.

إن الإصلاح الديني من هذه الزاوية يعني قبول نتائج الحداثة باعتبارها أفضل ما أفضت إليه التجربة الإنسانية حتى الآن، وفي القلب من هذه التجربة الحداثية: الديمقراطية والعلمانية.