انتبه الإنسانية تقتل أحيانا
عندما نقول إن هناك صراعًا بين طرفين من الكائنات الحية، فإن هذا يعني أن نحدد أسبابًا للصراع بين الفريقين وطرقًا مفترضة لإنهاء أو حسم الصراع، ومميزات الأطراف المختلفة التي قد تمكنها من الانتصار، ونقاط ضعفها التي قد تقود لخسارتها، والأهم من هذا كله إرادة خوض الصراع والاستعداد لتحمل المخاطرات.
كل الكائنات تدرس هذه الاحتمالات وتقرر فيها على حسب قدراتها الدماغية لحساب الاحتمالات، وعلى حسب ضرورة الصراع، وعلى حسب قدراتها الجسمانية لخوضه.
حيوانات الغابة إذن تتصارع لأجل الماء والغذاء، الكائنات التي تشكل جزءًا من السلسلة الغذائية لكائنات أخرى تخوض فيما بينها صراعًا شرسا تستخدم فيه كل قدراتها بدءًا من الأنياب والحوافر إلى حدة البصر وحاستي الشم واللمس، وكذلك سرعة العدو والقدرة على المناورة الخ، قد يخوض كائنين من ذكور نفس النوع صراعًا من أجل الفوز بأنثى معينة، المهم أن هذه الصراعات كلها تقترب أكثر من أن تصبح صفرية كلما كان الصراع على شيء أكثر أهمية كالماء والغذاء وكلما كانت الموارد محدودة بما يمنع تشاركها بين الجميع.
وكذلك الأمر بالنسبة للجنس البشري صراعاته منذ فجر التاريخ هي تكرار لصراعات كل الكائنات الحية، ولكن الفارق الرئيسي أن الإنسان يتطور فكريا ومعرفيا فيتحضر أكثر فأكثر وكلما اتجه بعيدا عن مجتمع الكهوف والغابات نحو مجتمع المدينة فإنه يضع قواعد جديدة للتعامل وتصبح مع الوقت متفقاً عليها كأساس.
ولكن علينا أن نُقر ببضع حقائق، أن الصراع لم ينته من العالم ولن ينته، كل ما هناك أنه تم وضع قواعد جديدة لإدارة الصراعات، لم يعد مطلوبا أن تبيد الخصم إبادة عرقية وتمحوه من الوجود لتنتصر في الصراع، كما لم يعد مطلوباً بالتأكيد أن تقوم بقتل الذكور البالغين واسترقاق النساء والأطفال، فالعالم الذي تحضر أصبح يعامل المدنيين عموما باحترام بعيدا عن الصراعات والحروب، كما لم تعد معاملة الأسير معاملة مهينة أمراً مقبولا.
العالم أصبح يدير صراعاته العسكرية لكسر القوة العسكرية للخصم ليس إلا، وأصبح يخوض حروبه لا لتدمير بلد معين ولكن لإجباره على التفاوض وقبول شروط معينة، حروب التطهير العرقي والإبادة الجماعية هي في أي مكان في العالم مؤشر على تخلف قيم من يشنها وربما إذا كانت متبادلة فإنها تدل على تخلف الطرفين معاً.
إذن فإننا يجب أن نوضح للرومانسيين الذين يرفعون الإنسانية شعارا أن تطور الصراعات وآلياتها، وتطور البناء الفكري والمعرفي للجانبين المتصارعين وتحليهما معا بقيم متحضرة هو ما يجعل الحفاظ على فكرة الصراع المتحضر عموما ممكنًا، من أبسط انواع الصراعات كالتنافس بين طالبين في الفصل للحصول على مركز متقدم إلي أشرس أنواع الحروب.
هؤلاء الرومانسيون يشتتون عقلك، فهم في حقيقة الأمر يفهمون الصراع المتحضر بأنه هروب من المعركة وليس بأنه خوض المعركة مع الحفاظ قدر الإمكان على قيم التحضر، وبالتالي يحولون أولوياتك باستمرار بحيث تتحول إلى متخاذل يخدم عدوه.
دعنا نفكر في الحرب حيث يتواجه ملايين الجنود من جنسيات مختلفة في ساحات القتال، كل مقاتل حريص على قتل خصمه طالما لم يلق سلاحه، هناك حقائق مثل أن هذا الخصم الذي تقاتله قد يكون مهذباً ولطيفًا، ومتحضرًا، وطيب القلب، ووطنيًا محبًا لبلاده بمقدار ما تحب بلادك الخ، كل هذه الأمور هي صحيحة تماما ولكنها ليست في مكانها الصحيح والتركيز عليها هو ضرب من العبث .لماذا؟ لأن مقاتلاً بهذه الروح لن يطلق رصاصة تجاه عدوه وبالتالي فسيكون هو من يتلقى الرصاص وحده، وبمعنى آخر فإن شعباً مقتنعاً بهذا هو شعب معرض للإبادة والانقراض أمام أعدائه، لأن أعداءه في ساحة المعركة ببساطة لا يشاطرونه نفس الأفكار اليوتوبية.
لنتخيل الجنود الأمريكيين والبريطانيين يرمون سلاحهم أمام الألمان لأنهم لا يريدون أن يقتلوا إنسانا مثلهم، ماذا كانت ستكون النتيجة إلا احتلال ألمانيا النازية للعالم كله؟ بل لنتخيل حتى أنهم رغبوا في حل وسط مع قوة تمثل كل هذا الكم من العنصرية والشر والعدوانية والإيمان بالتفوق، ماذا كانت ستكون النتيجة إلا بقاء قيم العنصرية سائدة ومنتشرة وقوية في عالم اليوم بكل ما يعنيه ذلك من خلق صراعات دائمة ولا نهائية في كل مكان في الاعلم بين الألوان والأعراق والديانات والمذاهب والطوائف المختلفة؟
الحقيقة إذن أن إلحاق الهزيمة بهذه الأفكار كان ضروريا لكي نصل لهذا المجتمع المتحضر صاحب القيم التي يرفعها هؤلاء الأخلاقيون الرومانسيون.
هل تتخيلون هذه المعادلة البسيطة؟ إن فرض تسوية الخلافات بالتفاوض مثلا بدلا من العنف لم يصبح قيمة سائدة إلا بعد فرض هذه القيمة لتصبح عرفا متفقا عليه بين كل الأطراف، وهذه العملية تمت أصلا باستخدام العنف.
كل قيمة عظمي تسود عالمنا كالحرية والتسامح والديمقراطية وأخلاقيات الصراع والتنافس إلخ تم فرضها في العالم عبر صراع قد يكون العنف من أدواته الأساسية، وبالتالي استقر العالم أكثر على تحجيم العنف نتيجة الإقرار المشترك بحقوق الأفراد والجماعات، أما إذا ظهرت مجموعة لا تؤمن باي حقوق للآخرين، فإنه لا يمكن الدفاع عن حريتهم في هذا الاختيار بدعوي اللاعنفية، لأن خيارهم نفسه يتضمن العنف ضد الآخرين، وبالتالي يصبح من الضروري استخدام العنف معهم لردعهم عن نشر العنف وثقافته في العالم من جديد.
إذن فلم يكن ممكنا إجبار ألمانيا النازية وحلفائها بالكف عن السياسات والأفكار العنصرية والإجرامية إلا عبر إلحاق الهزيمة بها عسكريا، ولو أنك جلست لتتفاوض مع هتلر ألف مرة لما حصلت على أي شيء أكثر مما حصل عليه تشامبرلن عندما تنازل عن النمسا ثم السوديت وتشيكوسلوفاكيا، لينتهي الأمر ببولندا من بعدهم وهلم جرا.
تعال لتتصور إذن من هو الإنسان المثالي الحقيقي هل هو جندي بريطاني هرب من ساحة المعركة آنذاك فتسبب في هزيمة بلاده وانتصار النازية وبالتالي مقتل عشرات الأضعاف للرقم الذي مات في الحرب في مجازر متتالية ستستمر لأجيال ترتكب ضد أعراق مختلفة بدعوى أنه كإنسان يرفض أن يقتل إنساناً لا يعرفه، أم أنه الإنسان الذي اختار القتال ليصل بالمجتمع الإنساني أو على الأقل بالجزء الأكثر تقدما منه في أربع قارات أو أكثر لما هو عليه اليوم؟ من منهما كان أكثر إنسانية؟ من منهما مدع للتفوق الأخلاقي ومن هو المتفوق أخلاقيا بالفعل؟
إن المدعي ببساطة يستمتع بحياته نتيجة للدور الذي حماه به المتفوق الحقيقي، فقد وفر له بدمائه أو بقتاله أو بصموده أو بشجاعته أو بحفاظه على معنوياته أو بكتاباته إلخ الفرصة لكي يعيش حراً سيدا مستمتعاً بتفوق وانتصار القيم التي يدعو لها محمية بالسلاح من عنف من لا يفهمون إلا لغة السلاح، ولو لم يحدث ذلك لكان تحت الأرض ميتاً او فوقها يندب حظه هارباً مشرداً.
تلك هي معضلة عدد كبير من أدعياء الأخلاق لدينا فهم ليسوا حريصين علي الانتصار في صراع بأقل ضرر لهم ثم للخصم، بل هم يدخلون المعركة حريصين على الخصم فقط ليثبتوا لأنفسهم أنهم متحضرون، لهذا فإن تحضرهم المزعوم لا يقود أبداً لا لانتصار لهم ولا لأفكارهم، فهذا المنطق ضد أساسيات فكرة الصراع أساسا.
إننا نخوض صراعًا اليوم في مصر على الهوية المصرية، ندفع ثمن تراكمات عمرها قرون وعقود وسنوات، صراع واضح بين فكرتين هما الانتماء للوطن والانتماء لكيانات طائفية أو دينية، هو صراع تم حسمه في مناطق أخرى من العالم منذ قرون، يستخدم خصمك كل أسلحته بدايةً من العنف الصريح إلى التضليل الإعلامي لإرباكك وإلحاق الهزيمة بك لمصلحة أفكار ظلامية دموية، أنت لا تملك حتى رفاهية مقارنة نفسك بمن كان يقاتل ضد النازي، فمن تواجههم أكثر ظلامية ودموية وبشاعة من كل منتجات القرن العشرين حتى أحطها وأسوأها، لهذا فإنه يبدو عبثيا أن تقاتل المعركة بعيون خصمك.
قال لي أحدهم ردًا على إعدام إرهابيين مدانين إنه يرفض معاقبتهم بدعوى كونهم مُضللَين، (فالذي يقاتل غير مسؤول عن أفعاله لأنه مُضلل فكريا وهو يسعى لتحقيق هدف مقتنع به ويجتهد في ذلك).
هذا إذن هو العبث بعينه، بل هو مسؤول بالتأكيد عن أفعاله وعن تصرفاته، وبالتأكيد مسؤوليته تفوق مسؤولية شاب ألماني مات علي جبهات القتال مدافعاً عن النازية أو مدافعاً عن وطنه الذي لم يكن له ربما خيار إلا الدفاع عنه آنذاك. الشاب المتطرف لم يجبر علي أي اختيار، هو من اختار منهجه، وهو من اختار وسيلته، وهو من نفذ اختياراته.
من العبث أن تقول له أفكاره ولي أفكاري، هذه المقارنة فاسدة من أساسها، الفكر الإجرامي أو المحرض على الكراهية لا يتساوى مع فكر يقول أنت حر مالم تضر، فالأول يستهدف كل الآخرين بالضرورة بينما الثاني يتسامح مع الجميع طالما لم يؤذوه، الأول لكي يعيش يدمر كل ما عداه، بينما الثاني يتعايش مع الجميع طالما لا يؤذونه. لا يمكن مساواة الأفكار ببعضها إلا عند تجريم استخدام العنف وتجريم التحريض علي الكراهية والعنف، وإلا عندما تؤمن كل الأطراف عن قناعة بأن هذه الأمور جريمة فعلاً، لا أن تكرر ذلك بلسانها تقية بينما قناعاتها وكتبها وأدبياتها وبياناتها وتصرفاتها تؤسس في كل لحظة للعنف.
ولهذا السبب فإن العالم وضع أسساً للتعايش من لا يحترمها لا يمكن التعايش معه. التسامح مع غير المتسامح جريمة بحق التسامح والتعايش المشترك لأنها تقود إلى هزيمة التسامح وإلى صعود التطرف المضاد.
إذا أردنا الانتصار في معركة فعلينا أن نكون شجعانا لا أن نكون انهزاميين، الشجاعة تقتضي أن تخوض الحرب، تخوضها بقيمك نعم، ولكن تخوضها، لا أن تهرب منها مدعياً باستمرار أنك أكثر أخلاقية لأنك (تعتزل الفتنة).لست أكثر أخلاقية أبدا بل أنت تستخدم التسامح كسلاح لتدمر به التسامح. أنت ببساطة أكثر إجرامًا منهم
للتواصل مع الكاتب