التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:39 ص , بتوقيت القاهرة

الحجاب وعمر بن الخطاب (2)

القارئ المتأمل في كتب التاريخ والسير، لا يفوته أنه يلحظ ذاك البون الشاسع بين شخصية النبي وشخصية عمر بن الخطاب؛ فبينما كان ? يمتاز بالرفق واللين، خصوصا في تعامله مع النساء كانت الفظاظة والغلظة الشديدة هي السمة المميزة للفاروق- رضي الله عنه - في الإطار ذاته، فلم يصدف أن قرأت نصا واحدا يشير مجرد إشارة إلى أن النبي محمد رفع يده يوما على أحد زوجاته رغم كل ما صدر منهن في حقه، وهو الأمر الذي يتحدث عنه ابن سعد بثقة فيقول: ما ضرب رسول الله ? بيده امرأة قط ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله [1] بل إنه ? نهى فاطمة بنت قيس عن الزواج من أبي جهم لأنه يضرب نساءه، وكان قد نهاها أيضا عن الزواج من معاوية بن أبي سفيان لأنه صعلوك لا مال له، إذ جاء في الحديث: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: فَأَمَّا "أَبُو جَهْمٍ" فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وأمَّا "مُعَاوِيَةُ" فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، اِنْكِحِي "أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ: اِنْكِحِي" أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ.


وعلى النقيض من ذلك المسلك المتحضر جدا، والذي يندر أن تجد له مثيلا في ذلك المجتمع الجاف، كان سلوك عمر بن الخطاب، إذ لما نهى الرسول عن ضرب النساء بعبارة صريحة وقال: «لا تضربوا النساء»، جاء إليه عمر مسرعا يقول: يا رسول الله قد أبر النساء على أزواجهن فأذن في ضربهن، فقال النبي ?: «لقد طاف بآل محمد الليلة سبعون امرأة كلهن تشكو زوجها ولا يجدون أولئك خياركم» [2]. بل إن عمر، وعلى الرغم من كون النبي متزوجا من ابنته حفصة، كان يحرضه على ضرب زوجاته، وعن تلك الواقعة يحكي لنا جابر بن عبد الله القصة فيقول:


تركنا رسول الله يوما وليلة لم يخرج إلى الصلاة، فأخذنا ما تقدم وما تأخر، فاجتمعنا ببابه نتكلم ليسمع كلامنا ويعلم مكاننا، فأطلنا الوقوف، فلم يأذن لنا ولم يخرج إلينا، فقلنا: قد علم رسول الله مكانكم، ولو أراد أن يأذن لكم لأذن فتفرقوا لا تؤذوه، فتفرق الناس غير عمر بن الخطاب يتنحنح ويتكلم ويستأذن حتى أذن له رسول الله، قال عمر: فدخلت عليه وهو واضع يده على خده أعرف به الكآبة، فقلت: أي نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي رابك وما لقي الناس بعدك من فقدهم لرؤيتك؟ فقال: «يا عمر يسألنني أولاء ما ليس عندي يعني نساءه، فذاك الذي بلغ مني ما ترى»، فقلت: يا نبي الله قد صككت جميلة بنت ثابت صكة ألصقت خدها منها بالأرض لأنها سألتني ما لا أقدر عليه. [3] 


فبينما اكتئب الحبيب محمد، ووضع يده على خده، حزنا على عدم مقدرته الوفاء بمتطلبات زوجاته المتزايدة، للدرجة التي امتنع معها عن الخروج يوما وليلة لأداء فريضة الصلاة إماما بالمسلمين، كان عمر بن الخطاب قد تعامل في الموقف ذاته تعاملا مغايرا تماما؛ صفع زوجته على خدها صفعة ألصقت المسكينة بالأرض، لا لشيء أكثر من طلبها ما لم يستطع الوفاء به!


وليس ما أوردنا للتو محض محاولة لإثبات فرضية افترضناها، بل حقيقة كانت معلومة للصحابة والصحابيات، اللائي لم يخجلن من مصارحة عمر بها في حضور رسول الله نفسه. يقول محمد بن سعد بن أبي وقاص: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله ? وعنده نساء من قريش يكلمنه وَيَسْتَكْسِينَهُ عالية أصواتهن. فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب فدخل عمر ورسول الله يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله: «ضحكت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك بادرن الحجاب» ، فقال عمر: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟.. قلن: أنت أغلظ وأفظ من رسول الله. [4]


فأنت ترى هنا أن رسول الله ? كان يجالس النساء ويتكلم معهن دون حجاب أو ساتر، يطلبن منه ما أردن بأصوات عالية، لكن حين علمن بمجيء عمر احتجبن، أي أخذن ساترا، وقد بررن فعلتهن بغلظة عمر وفظاظته.


والحق، أن هذه الغلظة وتلك الفظاظة كانت سلوكا واعيا وعاقلا من الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، وكان يتعمد إظهارها مع النساء، فقد كان يرى أن العطف على المرأة والحديث معها بحنان أو السماح لها بمجادلة الرجل فعل من شأنه أن يضعف من صورة الرجل أمامها، وكان يعيب على الأنصار أنهم يسمحون لنسائهم بمجادلتهم، وإجمالاً كانت نظرته للعلاقة بين الرجل والمرأة على أنها نزال أو حرب، لا بد أن يكون فيها النصر للرجل، وقد صرح عمر ذات حديث ودي بينه وبين حبر الأمة عبد الله عباس بتلك النظرة فقال:


وكنا معشر قريش نَغْلِبُ النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار، فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ? ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن. ثم جمعت علي ثيابي فنزلت، فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت: يا حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله يوما إلى الليل، قالت: نعم. قلت: خِبْتِ وَخَسِرْتِ...[5]


الآن وبعد سردنا لهذه المعطيات، نستطيع أن نقول بقدر لا بأس به من الثقة، إن الشخصية العمرية في تعاملها مع النساء كانت شخصية شرقية إلي أبعد حد، لهذا السبب، لا نندهش حين نعلم أن عمر كان يلح على النبي في تشريع الحجاب، حجاب زوجاته تحديدا، بل لما رفض رسول الله ? الاستماع إليه أو موافقته على تشريعه المقترح، لم يجد غضاضة في أن يلجأ إلي الحيلة!


فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِلَى حَوَائِجِهِنَّ بِالْمَنَاصِعِ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ: احْجُبْ نِسَاءَكَ فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ. [6]  وقد لاقت هذه الدعوة العمرية لرسول الله رفضا من زوجاته ? أيضاً، فحين زاد إلحاح عمر قالت له زينب: يا بن الخطاب! إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا. [7] وكذلك كانت أم سلمة غاضبة من طريقة تعامل عمر مع النساء، نساء النبي بالتحديد، إذ قالت له في موقف آخر: أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ ? مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ، حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟ [8]


إذن فإلحاح عمر على النبي لتشريع الحجاب لم يلقَ رفض النبي فحسب، بل لاقى رفض زوجاته أيضا. فهل وقف عمر مكتوف الأيدي أمام رفض النبي وزوجاته الإصغاء إليه أو موافقته علي ما يقترح من تشريع؟!
الإجابة لا. لجأ عمر إلى الحيلة! إذ تربص ذات ليلة بأم المؤمنين سودة - رضي الله عنها - وهي خارجة لقضاء حاجتها، حتي يتم له ما يريد. وعن ذلك تحدثنا عائشة فتقول: فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ". [9]


وبالفعل؛ ينتهي الأمر بموافقة السماء للحرص العمري، وينزل الوحي بآية الحجاب يقول: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وظل عمر بن الخطاب طيلة حياته يفتخر بهذا الموقف ويقول: وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاَثٍ [10]. أما الموقف الأول الذي وافقه ربه فيه؛ حين قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. فنزلت آية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. والموقف الثاني: هو الذي نتحدث عنه. أما الثالث، فحين قال عمر لنساء النبي: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فنزلت الآية كما نطقها عمر حرفياً.[11] 


وللحديث – إن شاء الله – يوم الاثنين بقية.


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المصادر:


[1]  طبقات ابن سعد. جـ 8. صـ 204


[2]  طبقات بن سعد. جـ 8. صـ 205


[3]  طبقات ابن سعد. جـ 8. صـ 179.


[4]  طبقات ابن سعد. جـ 8. صـ 181.


[5]  طبقات ابن سعد. جـ 8. صـ 182


[6]  طبقات بن سعد. جـ 8. صـ 174.


[7]  تفسير الطبري. جـ 20. صـ 312.


[8]  صحيح البخاري. باب واتخذوا مقام إبراهيم مصلى. الحديث رقم 4483


[9]  طبقات بن سعد . جـ 8. صـ 174


[10]  صحيح البخاري. نفس الحديث.


[11]  تفسير الطبري. جزء 23. صـ 488