من أين جاء الحجاب؟
حَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْبا ًوحِجاباً. وحَجَّبَه: سَتَرَه أو منعه. وقد احْتَـجَبَ وتَـحَجَّبَ إِذا اكْتَنَّ من وراءِ حِجابٍ. أو منع بين الشيئين وفصل بينهم أو منع الميراث. هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الحجاب، بحسب ما أفادنا صاحب لسان العرب قبل سبعة قرون.
أما إذا أردنا أن نعرف كيف التصقت الكلمة بالمرأة، فلابد أن نعود أدراجنا بعجلة التاريخ 6000 آلاف سنة إلى الوراء، ونذهب إلى شبه الجزيرة الهندية، إلى المدينة التي عرفت عصرئذ باسم "موهنجو دارو"، والتي تقع الآن ضمن حدود باكستان، فمن تلك المدينة بالذات ظهرت لأول مرة عادة تغطية المرأة والاحتفاظ بها داخل خيمة متحركة، تعرف في عصرنا الحالي باسم النقاب أو "الشادور" كما يُطلق عليه في العراق وإيران.
وشأنها كشأن أي عادة، صُبغت تلك العادة بصبغة مقدسة، مع ظهور الديانات الهندية القديمة؛ البراهيمية، والفيدية، والبوذية، ذلك لأن هذه الديانات كانت تعتقد أن الإله حين خلق المرأة خلقها من "بقايا المواد الصلبة" التي خلق منها الرجل، وعليه فهي مخلوق هامشي عكس الرجل "سيدها"، وكل واجبها في الحياة أن تخدم هذا السيد. ولم تكتف بعض هذه الديانات بحرمان المرأة من دراسة كتب الحكمة فحسب، بل ذهبت إلى تحريم الاختلاط بها نهائياً، معتبرة أن في الاختلاط دليلاً على فساد المملكة، فكان أن ضرب عليها الحجاب!
وكانت شبه الجزيرة الهندية الوجهة المُفضلة لجيوش البابليين. وحين عاد الجيش من إحدى تلك الغزوات، عاد محملاً بكل ما هو نفيس من ذهب وفضة وبخور وسبايا وجوارٍ، وعاد حاملاً معه تلك العادة المقدسة أيضاً، عادة حجاب المرأة والاحتفاظ بها داخل خيمة، وفي بلاد وادي الرافدين طرأ عليها تغيير طفيف في وظيفتها، إذ قد اكتسبت هناك – في بداية الأمر – صبغة طبقية، فكانت تستخدم للتفريق بين البابلية الحرة، والأمة الهندية التي جاءت بحجابها.
وكما دارت سنن التاريخ وأقضية الدهر على عادة الحجاب في شبه الجزيرة الهندية، دارت عليها أيضاً في بلاد فارس ووادي الرافدين، بفعل الديانات الزرادشتيه والمانوية والمزدكية، التي كانت تعتبر المرأة كائنا غير مقدس، وكانت توجب عليها أن تضع عصابة على فمها وأنفها كي لا تدنس أنفاسها النار المقدسة. ومع مرور القرون انقلبت الآية، فتحولت عصابة الفم والأنف إلى لباس كامل تبدّلت صبغته الطبقية إلى صبغة دينية للتمييز بين الحرة والأمة. ولاحقاً بين نساء المعبد وغيرهن، إذ ذاك عرف التاريخ لأول مرة حجاب الحرة تمييزاً لها عن الأمة، وهكذا عرفه العرب، فاحتفظت لنا كتب التراث الإسلامي، التي دون الفرس معظمها، بآثار درة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على ظهور الإماء المتشبهات بالحرائر. فالحجاب بهذا المعنى ما هو إلا عادة طبقية!
وقبل أن يسمى اليهود يهودا، وحين كانوا مجرد جماعات من البدو "العبرانيين" دائمي الترحال في صحاري شبه الجزيرة العربية المتصلة ببلاد وادي الرافدين، كانوا قد عرفوا أيضاً عادة حجاب المرأة، لكن من منظور صحي هذه المرة. إذ كان راعي الغنم العبراني يعتقد أن "الطمث" مرض؛ لذا فقد عمد إلى عزل المرأة وقت المحيض كإجراء وقائي أشبه بالحَجْر الصحي الذي نتبعه اليوم، كي لا تنتقل العدوى عن طريق الدم إلى باقي أفراد القبيلة.
وفي معابد مصر القديمة - وعلى ما يذهب النيهوم - تعلم ذاك البدوي أن يتحدث باسم الرب، وتغير اسمه من عبراني إلى "يهودي"، فتحولت عاداته "الصحراوية" إلى أوامر "إلهية" مقدسة، ومعها تحول الحجر الصحي من إجراء وقائي بدائي إلى عقاب رباني مقدس للمرأة بوصفها ملعونة وبوصف الطمث نجاسة!
وقد جاءت تعليمات الكاهن اليهودي للمرأة بأن تُعزل وقت المحيض سبعة أيام من كل شهر، وفي خلال تلك المدة صدرت التعليمات التوراتية صارمة في صراحتها حين تقول: "كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّسٍ لاَ تَمَسَّ، وَإِلَى الْمَقْدِسِ لاَ تَجِئْ". بيد أن العقاب الكهنوتي لم يتوقف عند الطمث وحده، بل عالجت التوراة موضوع الحمل بحسبانه عقابا إضافيا لكل بنات حواء. وقد نقل لنا بولس قول الرب مخاطباً حواء: "سأضاعف آلامك وأحزانك مضاعفة كبيرة ..وستلدين الأطفال بالآلام وحدها.. وستكون حياتك خاضعة لمشيئة زوجك".
ولم تكتفِ التوراة باعتماد آلام الحمل والولادة كعقاب للمرأة, بل قررت أيضاً حجابها كعقاب إضافي، فإذا ولدت ذكرا تُعزل (أي تحجب) 40 يوما, بينما تتضاعف فتره الحجاب إذا ولدت أنثى، فتعزل 80 يوما، ذلك لأن النجاسة تتضاعف مع ولادة الأنثى. وفي ذلك تقول التوراة: "إِذَا حَبِلَتِ امْرَأَةٌ وَوَلَدَتْ ذَكَرًا، تَكُونُ نَجِسَةً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. كَمَا فِي أَيَّامِ طَمْثِ عِلَّتِهَا تَكُونُ نَجِسَةً.. وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، تَكُونُ نَجِسَةً أُسْبُوعَيْنِ كَمَا فِي طَمْثِهَا. ثُمَّ تُقِيمُ سِتَّةً وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا".
وحين أخذ اليهود كأسرى حرب إلى بابل عقب أن استولى "بختنصر" أو "نبوخذ نصر" بحسب ما يرد ذكره في الكتاب المقدس على بيت المقدس، أخذت التوراة شكلها الكتابي الأول، وامتزجت تعاليمها بالثقافات والأساطير البابلية، والتي كان الحجاب - هندي المنشأ - من ضمنها. وياله من عالم صغير جداً. إذ ذاك ترسخت قصة غواية حواء في أذهان اليهود وتعاليمهم الدينية، فأصبحت المرأة بفعل الوضع الديني والأسطوري القائم منشأ الغواية، ومصدر الثمرة المحرمة، ومن ثم فهي ملعونة. وذلك ما عمد كهنة اليهود تقريره والإلحاح عليه في قصة الخلق التوراتية. وكعقاب إلهي على تلك الجريمة التي لم تقترفها، كان الطمث والحمل وآلامهما ملازماً لها طيلة حياتها، وكانت هي قد تحولت إلى كائن نجس وجب عزله معظم أيام السنة.
وبحماسة دينية شديدة كان كهنة اليهود وأحبارهم يعمدون إلى "حجب" المرأة وعزلها, مطبقين حرفياً تعليمات الرب التي كتبوها بأيديهم. أما بالنسبة للأيام القليلة الباقية, تلك التي يسمح فيها للمسكينة أن تغادر محبسها أو مكان "حجابها"، كان يتحتم عليها ألا تكون سبباً في غواية يهودي واحد كما فعلت أمها حين أغوت أدم فأخرجته من الجنة. إذا ذاك فقط عرفت الأديان الإبراهيمية فكرة العباءة التي تغطي المرأة من رأسها حتى أخمص قدميها بحسبانها تعاليم الله.
إن حجاب المرأة يتحول على يد أجيال اليهود من مكان محدد تعزل فيه وقت الطمث وبعد الولادة إلى "زي" يرافقها أينما حلت أو ارتحلت كي لا تصبح كأمها "مدخل الشيطان" على حد وصف التوراة.
وعقب الفتوحات الإسلامية، واختلاط المسلمين - الذين ما عرفوا الحجاب سوى من منظور طبقي - باليهود والفرس، حلت الكارثة، إذ انتقلت قصة الغواية، التي ما قال بها القرآن أبداً، من أدبيات اليهود إلى الفقه الإسلامي، ومعها انتقل الحجاب من خانة التمييز إلى خانة سد الذرائع، ومنع الغواية واجتناب الفتنة.. كل هذا حدث باسم الله، وكم من الجرائم ترتكب باسمك يا اللّه!
لكن ولأنه لا وجود لجريمة كاملة؛ فقد كان متوقعاً أن يقترف الكاهن اليهودي خطأ ساذجاً يشبه سذاجة قصته، فكتاب اليهود المقدس نفسه يقول إن الرب لا يلعن الأطفال ولا العجائز، والمرأة كما الرجل، تُولد طفلة وتموت عجوزاً، مما أربك نظرية الكاهن اليهودي الذي تعمد وصف المرأة بأنها نجسة ملعونة، فتحتم عليه بعد أن وجد نفسه في موقف حرج أن يعدل من نظريته قليلاً كي يخرج من هذا المأزق، فاعتمد نظريته على أساس أن شريعة عزل المرأة أو حجابها لا تسري إلا على المرأة التي تحيض.
أما أولئك اللائي لم يحضن بعد أو تخطين سن الحيض فلا يتوجب حجابهن أو عزلهن، لأن الفتنة أو الغواية لا تأتي من قبلهن.. وتلك هي النظرية التي تبناها فقهاء المسلمين فيما بعد حرفيا. وصدق النيهوم، الذي اعتمدنا على تأريخه، إذ قال: إننا محاطون باليهود من كل جانب!
للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك