ابن الفردية الشامخة
عندما تمنح الدولة لأحد الشباب حديثي التخرج وظيفةً في سلك النيابة فلا يعني ذلك أن علينا أن ننظر لهذا الشاب نظرتنا للمشرِّع "سُولون". كل ما هناك أن هذا الشاب قد أصبح مؤهلاً للنظر في قضايا الناس بما يتوافق مع القوانين التي وضعها المشرعون، وبما يتناسب مع درجته الوظيفية. وقد يتدرج هذا الشاب في المناصب ــ إذا التزم بفضيلة الاجتهاد وحالفه حسن الحظ ــ ليتقلد يومًا ما منصباً قضائيًا كبيرًا، لكن هذا المنصب قد لا يضمن له بالضرورة ذات المكانة التي يحظى بها "سُولون" في تاريخ القانون. فهذا الأخير لم تخلد الكتب إسمه لأنه تولى (كمئات الرجال قبله وبعده) منصب كبير قضاة أثينا في أحد عصور ما قبل الميلاد، بل لأنه كان صاحب فلسفة قانون إصلاحية وضعت الأسس الأولى للنظام الديمقراطي.
وعندما تمنح الدولة شهادةً لشاب تجيز له بموجبها العمل بالطب فإنها لا تكتب في هذه الشهادة ما يدل على أن هذا الشاب قد تحول إلى ملاكٍ من ملائكة الرحمة أو أن نفسه قد بلغت من السمو وحب تخليص البشر من آلامهم ما بلغته نفس "أبقراط". فشهادة الطب لا تعني غير أن حائزها قد أصبح مؤهلاً لعلاج الأمراض بما يتناسب مع خبراته ومعارفه؛ هذا بالطبع بافتراض أنه قد أجاد تشخيص الأمراض بدايةً.
وقد يحظى شخصٌ ما ــ ككاتب السطور مثلاً ــ بمساحة يستطيع من خلالها أن يكتب آراءه وينشرها على الناس في صورة مقالات دورية. وبغض النظر عن قيمة آراء أي كاتبٍ أو براعته في عرض أفكاره، فإنه لا يجدُر به أن يتوقع من القراء أن يمنحونه ذات الاهتمام الذي يمنحونه لرسائل الجاحظ أو كتابات ميشيل دي مونتاني. فالقدرة على كتابة المقالات لا تضع كاتبها بطريقة آلية في مصاف مصابيح البشرية وحملة شعلة الحقيقة.
ولعلك تتعجب مثلي سيدي القارىء (أو لعلك لا تتعجب) من سعي أبناء كل مهنة إلى إضفاء الصفات العظيمة على مهنتهم بما يجعلها تبدو أكثر أهمية وأجدر بالاحترام من المهن الأخرى. وهو سعي لا يساويه حمقاً سوى سعي رؤساء كل ديانة لإثبات أن ديانتهم هي الأكثر قدرة على إلباس الآثمين لباس الفضيلة. لكن من يفوقون هؤلاء وأولئك حمقاً هم الناس الذين يصدقون أن العظمة أو الفضيلة يُمكن إكتسابهما بالانضمام لمهنة معينة أو مذهب محدد بذات السهولة التي تُكتسب بها أدوار البرد بمجاورة العاطسين.
يعتقد الناس ــ تحت وطأة الاعتيادية وانعدام الطموح الفردي ــ أن انضمامهم لمهنة ما أو فئة اجتماعية معينة يضمن لهم أن ينالوا الاحترام المرتبط "عضوياً" بتلك المهنة أو الفئة. وهم في اعتقادهم هذا يغضون البصر بإرادتهم عن الحقيقة الساطعة التي تنفي أي وجود للعظمة أو الفضيلة خارج الفرد ذاته. فالملايين من الأطباء والقانونيين والضباط والساسة والكتاب والفنانين والمعلمين والفقهاء والاقتصاديين والأكاديميين قد جاءوا وذهبوا دون أن ينالوا أي عظمة من أي نوع ودون أن يبرهنوا على ذرة من فضيلة. بل كانت العظمة دوماً من حظ الذين آمنوا بفرديتهم وقدرتهم على اكتشاف مواهبهم وصقلها. هؤلاء "الأفراد" العباقرة هم الذين منحوا مهنهم العظمة التي لا يتوقف الحمقى عن السعي وراءها.
لا توجد مهنة شامخة أو مقدسة أو فاضلة أو وطنية أو إنسانية أو سامية، كذلك لا يوجد جنس أو سلالة أو عرق أو عائلة أكثر رقياً من الآخرين. لا ينفي ذلك بالطبع حق أي إنسان في السعي وراء ما يراه مميزاً في إطار العمل أو الدراسة أو المصاهرة، لكن نجاح أي إنسان في تحقيق مسعاه لا ينفي حق الآخرين في عدم الاكتراث.
نحن لا نكترث إذا أصبح ابن القاضي قاضياً كأبيه أو أصبح ابن عامل النظافة قاضياً كابن القاضي. نكترث فقط لمن يستطيعون إبهارنا وإلهامنا بفرديتهم وقدرتهم على دفعنا للأمام متجاوزين اعتياديتنا المضجرة. هؤلاء وحدهم هم الشامخون حقاً. وعلى المجتمع إن أراد التقدم أن يمنح كل الأفراد ذات الفرصة للشموخ الحقيقي. كما يجب على الأفراد أن يبحثوا عن الاحترام بعيداً عن ترهات المجتمع. فالاحترام كالعظمة والفضيلة، لا ينبع إلا من داخل الفرد، بغض النظر عما يرتديه من أوشحة.