التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 07:06 م , بتوقيت القاهرة

المتأنقون العراة

ليس من حق أي منا أن يوجه اللوم للآخرين إن هم أبدوا حرصًا على العناية باختيار الثياب الأنيقة. فرغبة البشر في الظهور بمظهر جميل غريزة أصيلة فيهم كحب البقاء. والمظهر العام الناتج عن الثياب الأنيقة ليس بالضرورة خادعًا، فالمظاهر لا تستطيع خداعنا إلا بالقدر الذي نسمح به لأوهامنا أن تقودنا. وكما تتفاوت حظوظنا من قدر التعليم والاطلاع والانتماء للطبقات الاجتماعية وامتلاك النقود اللازمة لشراء الثياب، تتفاوت حظوظنا من الأناقة. كذلك تلعب أذواقنا الشخصية دورًا حاسمًا في ما نختار أن نضعه على أجسادنا. لكن ما نلاحظه أن الشخص الذي نصفه عادة بالأنيق ــ بغض النظر عن درجة تعليمه أو طبقته الاجتماعية أو إمكانياته المادية أو مدى جودة خامات الثياب التي يرتديها أو نوعيتها ــ هو الشخص الذي يدرك معنى التناسق. 


الأناقة ببساطة تعني اختيار الألوان المتناسقة، وطراز الملابس الذي يتسق مع طبيعة جسد من يرتديها والمكان والوقت الذي تُرتدي فيه تلك الملابس. بالتأكيد هناك صيحات تخرج عن هذا التعريف البسيط، لكننا ندرك جميعًا أنها ليست سوى وسيلة يجذب بها مصممو الثياب أنظارنا لهم، لنشتري منهم ما هو مقبول ومتوافق عليه. فأغلبنا يرتدي الثياب الأنيقة تعبيرًا عن ذوقنا الراقي (الذي يقره الآخرون) وليس رغبةً في لفت الأنظار لقدرتنا على الاختلاف.


 الآراءُ ــ على عكس الأحذية أو أي نوع آخر من الملابس ــ ليس المطلوب منها أن تعبر عن مدى رقينا أو ذوقنا الرفيع أو مدى ما نملكه من مال. الآراء والقناعات ووجهات النظر تعكس مدى معرفتنا وقدرتنا على تصويب أنفسنا. لكن البعض يصرون على النظر إلى آرائهم نظرتهم إلى الثياب، فيحرصون أشد الحرص على أن تبدو آرائهم متسقة ومتناسقة؛ مهما أدى هذا الحرص إلى إهدار الأسس التي تقوم عليها الآراء. ولعلهم يظنون أيضًا أن الآراء الجيدة هي التي تمنحهم الراحة كما تمنحها لهم الملابس الفضفاضة.


الآراءُ- إن كان لها أن تحمل أي قيمة- لابد لها أن تُؤسس على الحقائق لا الأهواء. والحقائق- لحسن الحظ - لا تتناسق ولا تتسق. مضى العهد الذي كان الفلاسفة والعلماء يظنون فيه أن بإمكانهم وضع قوانين للكون وحركة التاريخ وسلوك البشر. مضى العهد الذي كان ينظر فيه لصناع التاريخ كشياطين أو ملائكة. مضى العهد الذي كان يمكن فيه تفسير ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو دينية بإرجاعها لعامل واحد. حتى العلم الطبيعي يكتشف في كل يوم مدى ما يعتري فروضه من نقص في ضوء الاكتشافات الجديدة ليهدم ما سبق من الآراء ويبني آراءً جديدة تنتظر دورها لتُزاح من الصدارة. 


يبدو أن أصحاب الآراء الأنيقة لم يدركوا ذلك بعد. لا زالوا يظنون أن عليهم ــ للظهور بمظهر فكري أنيق ــ اعتناق حزمة من الآراء التي "تبدو" لهم متناسقة الألوان. ولعل بعضهم ــ سعيًا وراء ذات الوهم ــ يتحمسون لآراء يظنونها أكثر عصرية كما يسعى التافهون وراء "الموضة". هذا السعي الحثيث نحو المظهر الخلاب المتناسق (الذي يخدع صاحبه ولا يخدع الآخرين) يسلب صاحب الرأى أي احترام كان من الممكن أن يناله رأيه.


نستطيع مثلاً أن ننصت بكل احترامٍ لآراء المحافظين والتحرريين. لا نجد مثلاً أي غضاضة في رأي ينتقد ثورة يوليو وسياساتها الاجتماعية والاقتصادية، ولا نجد أي عيب في رأي يسلط الضوء على إنجازات ذات الثورة ويدافع عنها. فبناءُ السد العالي وإنشاء المصانع وافتتاح المدارس والجامعات منجزات لا تُنكر، وحرب اليمن والتأميم وهزيمة يونيو جرائمٌ يصعب الدفاع عنها. الرأي القائل بأن الشعب المصري كله يدين للرئيس السادات باتخاذه قرار الحرب في أكتوبر ثم إبرامه اتفاقية السلام لا يقل صدقًا عن الرأي الذي يدينه بالتعاون مع تيارات الإسلام السياسي ضرباً لخصومه وحصارًا لهم. الرأي المطالب بالتوجه نحو تحرير الاقتصاد وتعظيم دور القطاع الخاص له ذات الاعتبار الممنوح للرأي القائل بأن القطاع الخاص لم يقم بدوره في التنمية كما يجب وينبغي مراقبته. لا عيب في الرأي الذي ينص على ضرورة ألا يتحمل قطاع من المواطنين من العاملين والمنتجين عبء قطاعات أخرى تأكل ولا تنتج، لكن ما العيب في رأى يلفت نظرنا لضرورة الالتفات للعدالة الاجتماعية؟ لا نرى عيبًا في رأي يقول بأن تراثنا الفكري يحمل الكثير من معوقات التقدم، ولا نرى أن الرأي القائل بأن ذات التراث يحمل الكثير من القيم السامية رأي فاسد. 


كل ما سبق من أمثلة، وغيرها من مئات بل وآلاف الآراء التي تفتقر للاتساق "الأنيق"، لو وردت على لسان ذات الشخص لا تجعله عديم الرأي أو التوجه. هو فقط شخص يعترف بالحقائق ويدرك أن دوره يقتصر على معرفتها وتحليلها دون أن يمتد للدفاع عنها أو تشويهها. فالحقيقة ليست بحاجة لمن يدافعون عنها كما أنها عصية على التشويه. المقولة الذاهبة إلى أنك "تستطيع خداع بعض الناس لبعض الوقت، لا كل الناس لكل الوقت" تثبت صحتها كل يوم. 


ومن الحقائق الثابتة أن كل شخص من حقه اعتناق ما شاء من آراء. يستوي في ذلك الناصريون مع دعاة عودة الملكية، كما يستوي في ذات الحق الإسلاميون مع العلمانيين، والرأسماليون مع الشيوعيين. أي صاحب رأي من حقه أن ينال احترامنا طالما يدعم رأيه بالأسانيد والأدلة. كما أن من حق أي صاحب رأي أن يعتنق آراء متعارضة مع توجهه دون أن نتهمه بعدم الاتساق، بل أن من حقه تغيير توجهه تمامًا إذا أتيحت له معرفة جديدة. وليس من حقنا أبدًا أن نتهم أي شخص بانعدام الرأي لمجرد أنه بدل آراءه ووجد في نفسه الشجاعة الكافية للإعلان عن ذلك. فالرأي الفضفاض على عكس الثياب الفضفاضة ليس مريحًا، بل هو مرهق لأصحابه الذين فضلوا أن يسلكوا كل السبل المعوجة على ما في ذلك من مشقة، بدل الركون لطريق واحد مرصوف جيدًا لكنه لا يؤدي غير لذات النهاية المتوقعة في كل رحلة.


عديم الرأي حقًا هو الباحث عن التناسق الموهوم بحث ضعاف الشعراء عن الوزن لا المعنى. عديم الرأي هو الذي يظن أن بإمكانه أن يلوي عنق الحقائق والوقائع ليخضعها لتناسق لا وجود له غير في رأسه. يظن أنه هكذا صاحب مبدأ لا يحيد عنه وأنه في صلابة الجبال. عديم الرأي هذا يظن أنه أذكى من الآخرين وقادرٌ على إقناعهم بتهافته كما يظن الرجل المتأنق (لا الأنيق) أن تأنقه قادرٌ على إخفاء صغر نفسه وقلة حيلته. إنحياز هذا الشخص الأنيق الرأي وتحيزه وتدليسه وطمسه المكشوف والساذج للحقائق يجعله غير قادر على إثارة فضولنا أو إهتمامنا بما يقول. آراؤه المتوقعة والمكررة والساذجة لا تجد صدى غير عند ما يماثلونه في الأناقة. هؤلاء الذين سيظنون بكل تأكيد أن السطور السابقة قد كُتبت قدحًا في خصومهم. أما الباحثون عن الآراء التي تضيف لمعرفتهم وتُذكي بداخلهم شعلة النقاش والإكتشاف فينظرون لصاحب الرأي الأنيق المتأنق نظرتهم لرجل يسير في الطريق متباهيًا بُعريه الكامل.



أناقة الحقيقة العارية وحدها هي ما تبعث بهجة الإعجاب.. مهما بدت غير متسقة أو متناسقة.