التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 05:14 م , بتوقيت القاهرة

الدولة و"ثورة الخطاب الديني".. فراق لا بد منه

(1)


الدولة تتعامل مع موضوع تجديد الخطاب الديني كما تتعامل مع صورة حائط. لأ شمال شوية، لأ يمين شوية، لأ ارفعها شوية، لأ نزلها شوية. وفي الأخير تأتي لتعيدها إلى نفس المكان الذي كانت فيه.


وهذا طبعا لا يجدي. أولا لأن الخطاب الديني ليس ملكا لدولة. الدولة تتجاوز دورها بتوظيف خطاب ديني، لكنها أبدا لا تملكه. تتجاوز دورها وتدلي بدلوها في موضوع الخطاب الديني، لكنها ليست صاحبة الرأي الأخير.



والدليل أن الأزهر موجود من ألف عام، وهو مؤسسة من مؤسسات الدولة منذ ما قبل الذاكرة المعاصرة، لكن أثره في الخطاب الديني كان أقل من أثر الجماعات الإسلامجية. بل لقد كانت علاقة الأزهر بالدولة المنفذ الذي استخدمته الجماعات الإسلامية دائما لإشاعة عدم الثقة فيه. ولولا ذلك لما اكتسحت الجماعات الإسلامية وخطابها الجامعات والمجتمع، بل وأثرت على الدولة نفسها. وإن كنتم لا تعلمون بما جرى هاتوا المناهج التعليمية "تنقرا".


وليت الدولة اكتفت بالتواجد والمنافسة، لا، بل اختارت الاحتكار. احتكار الأزهر - رغم فشله الذي أشرت إليه أعلاه - للخطاب الديني. ومنع الآخرين. الخوف من المنافسة دليل ولا أكبر على عدم الثقة في النفس.


وهذه - بالمناسبة - نفس طريقة الخطاب الاقتصادي حتى الآن. دولة تسير في اتجاه الاستثمار، لكن صحيفتها الأكبر - الأهرام - يتصدرها خطاب اقتصادي اشتراكي لم يتجاوز الثمانينيات. الدولة ترفع الدعم لكنها في الوقت نفسه تصدر قرارات بمكافأة إحدى أكثر شرائح الدولة تراخيا وعدم كفاية من الناحية الاقتصادية. وأقصد بهم موظفي الدولة الذين متوسط عمل الواحد/ة منهم 19 دقيقة. فترفع لهم الحد الأدنى من الأجور. بينما لا تعبأ بالمستقلين من الفقراء (فقراء السوق الحرة)، من سائقي التاكسيات والميكروباصات وأصحاب المشاريع الصغيرة والحرفيين. الناس الذين يضخون في ميزانية الدولة أكثر مما يأخذون.


هذا نفس جوهر موضوع تجديد الخطاب الديني. التردد، غياب الحسم، الرغبة في إرضاء من أضمن حياء عيونهم بإطعام أفواههم، وليذهب الآخرون إلى البحر. أشياء لا محل لها في السياسة ولا التجارة ولا الإعلام، واسألوا "خبيرة إعلانات". أو اسألوا سياسية، كمارجريت ثاتشر، وسياسيا، كتوني بلير، وكلاهما نجح في ثلاثة انتخابات ديمقراطية حرة متتالية. لماذا؟ لأن كلا منهما - على اختلاف مرجعيتهم الفكرية - جاء بمشروع واضح، وجمع حوله بالإقناع ووضوح الحجة والهدف شرائح كافية من المجتمع.


ثم إن الدولة تخذل كل مرة مواطنيها الذين يتشجعون لمواجهة الخطاب الديني المتخلف. فعلت ذلك مع طه حسين، كما فعلته مع فرج فودة ونصر حامد أبو زيد. الآن فعلت ذلك مع إسلام بحيري.


(2)


وعلى ذلك بنيت استنتاجي أن تخلي الدولة عن "تجديد الخطاب الديني" بشكل حقيقي يصب في مصلحة "تجديد الخطاب الديني". التجديد والمجددون لم يستفيدوا من الدولة أبدا، بل استخدمت كدعاية ضدهم. ثم إنها لكي تبعد عن نفسها شبهة التجديد (يا حفيظ) التي قد تُخسرها بعض الولاء، بالغت في خذلان المجددين، والتبرؤ منهم.


بنيت استنتاجي أيضا على تاريخ الدولة الطويل في الفشل في توظيف الخطاب الديني لصالحها. وعلى شيوع الخطاب الديني الذي يخرج لخطاب الدولة الديني لسانه. في وقت سابق استفاد الإخوان والإسلامجية من هذا. لكن الآن الموجة تسير في الاتجاه الآخر.


قد تجدين في هذا مبالغة. لكنني أحب أن ألفت نظرك إلى الفارق بين الكتلة "النووية" والكتلة الإلكترونية. الكتلة الثقيلة والكتلة النشطة. الأزهر، كالدولة، تقدم خطابا ثقيلا منفصلا عن المتجدد من شرائح المجتمع. يشبه مناهج الوزارة. معلومات مستفة دون فائدة تطبيقية. بل إن الناتج التطبيقي لخطاب الأزهر، في التشريعات والقوانين، شبيه بما سيفعله الإسلامجية إن وصلوا للحكم.


ما الفرق بالنسبة لنا كمجتمع إن أجاز نكاح الطفلة المربربة وجه عبوس أو أجازها وجه باسم. إن نطق بالتكفير وجه عبوس أو فرق بين الشخص وزوجه وجه باسم. إن ضيَّق على المرأة وجه عبوس أو ضيق عليها وجه باسم. إن عارض العلمَ والحداثةَ وجه عبوس أو عارضهما وجه باسم.  هذا تغيير في التغليف، لكن المضمون واحد.


ولا سيما أن الأزهر ليس جهة منضبطة الإيقاع، بل داخله عدد وافر من المتشددين تشددا داعشيا صريحا. وفي أجياله الجديدة التي نراها في المظاهرات ذخيرة وافرة لهذا التشدد.



لقد وقف الأزهر عاجزا في السنين السابقة والتالية لـ 25 يناير 2011 عن مخاطبة الخطاب المتشدد، إلا بعبارات مطاطة لا تختلف في نتائجها التطبيقية عن الإسلامجية. الآن انزوى الإسلامجية عن الحكم، فادعى الجميع الانتصار. لكننا رأينا بأنفسنا في السنتين السابقتين لوصول الإخوان للحكم كيف وقفت الكتلة الثقيلة الملتصقة بالدولة - رغم ضخامتها العددية - عاجزة إعلاميا عن مواجهة تويتر وفيسبوك، رغم ضحالة من كانوا يقودونهما. لم تتغير الموازنة إلا بتحول كتلة نشطة من المستقلين، تصرفاتها واختياراتها وأراؤها تهزم شبهات الانتهازية، في صالح هذه الكتلة الثقيلة. هنا فقط تغير الميزان.


الكتلة النشطة تلك هي التي تخاطب المتجدد من أجيال البلد. وكلما كانت تعمل مستقلة كلما اكتسبت ثقة. بشرط ألا تتخلى عن موضوعيتها، وألا تبالغ في المودة وتفجر في الخصومة.


وهذا سيتحقق بالفراق بين الخطاب الرسمي وبين "ثورة الخطاب الديني" المجتمعية.


هذه الكتلة النشطة متململة - حتى لا أفرض وجهة نظري باستخدام تعبير أشد - من خطاب الأزهر الديني. ومتململة من تعيين أحد وجوهه الإخوانية عضوا في لجنة تجديد المناهج التعليمية (للمواءمات ألف صورة وصورة)، ومتململة من مراوحة المكان في موضوع جعلنا أضحوكة العالم كموضوع الخطاب الديني، ومتململة من الإعلام "المائي" الذي يكتسب أي لون يقطر من السلطة في أي موضوع، بمنتهى السرعة، ومتملمة من السلوك الاحتكاري إعلاميا ودينيا. لكنها مطمئنة إلى أن الشباب الذي لم يعد أسيرا للقناة الأولى والثانية، ولا حتى للقنوات العربية الفضائية، والذي يقرأ ويرى ويقارن، لن يعود إلى الوراء. كما لن يعجبه عودة الدولة إلى مواءمات تطيل حياتها على حساب حياتهم ورفاهيتهم واستمتاعهم.


وهذه الكتلة ستستمر في مواجهة المتخلف من الخطاب الديني. لأنها حياتنا نحن، ونحن المسؤولون عنها.