التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 11:19 ص , بتوقيت القاهرة

حرب السنوات التسع.. مابين السيدة عائشة.. والأزهر.. والأزهري

المناظرة التي تمت مؤخرًا بين الباحث إسلام بحيري والشيخين أسامة الأزهري والحبيب علي، أثارت الكثير من الجدل قبلها وفي أثنائها وبعدها وهذا طبيعي. ولكن اضطرار رجال المؤسسة الدينية الرسميين لوضع قاعدة رفضهم علنًا لحكم الردة هو مكسب، بغض النظر عن  طريقة إعلانهم لهذا وما صاحبها من أمور يعلمون، ويعلم غيرهم، أن ماقالوه فيها غير صحيح، وأنهم لم ينقلوا عن شيوخهم ارتباط الردة (بالأمن القومي)، ولأن هذه كلها آراء حديثة ولم يعيروها هم أنفسهم اهتمامًا. و كذلك فاضطرارهم للقول بحرمة زواج الطفلة هو أيضًا مكسب وإن جاء بنفس الطريقة التي يعرفون هم قبل غيرهم، أن منهجهم فيها (بأدواتهم هم) يسهُل انتقاده.

ولأن القضايا المثارة كثيرة والحجج الواردة أكثر، فإنني سأكتفي هنا بمناقشة ماطرحه الشيخان في قضية سن السيدة عائشة عند زواجها.

يقترح إسلام بحيري سن 18 عامًا للزواج، استنادًا إلى روايات معينة، ولكن الشيخين مصممان على سن 9 سنوات للدخول بها،  استنادًا لرواية بعض كتب الحديث وعلى رأسها صحيح البخاري، والتي بالتالي يترتب عليها جملة أحكام وقواعد.

وبدايةً فإن السؤال الذي أطرحه هنا لا علاقة له بالانتصار لأي من الرأيين، فقد يكون الصواب تسع سنين وقد يكون 18، وقد يكون ما بينهما، وهذا لا يعنيني على الإطلاق، فسؤالي في المنهج الذي اقترحه كل من الاتجاهين ومدى سلامته واتساقه مع أطروحته الفكرية ومنهجه الذي اختاره لنفسه بنفسه.

هل منهج أي منهما علمي؟ لا ليس منهجًا علميًا لأن المنهج العلمي يقوم بالكامل على العلم، ولا مجال فيه للاعتقاد، وبالتالي فاعتقاد البحيري مثلا في أي أمور لا يمكن إثباتها علميًا، والتي هي جزء من اعتقاده الديني يعني أن منهجه غير علمي، وهو بالتأكيد ماينطبق كذلك على منهج الجهة الأخرى، الفارق هنا أن إسلام يُقر بحقيقة أن الدين ليس علمًا وهو محق في ذلك تمامًا، العلم لا مجال فيه للاعتقاد، إذا قلت إن الدين علم فلا مجال مطلقًا لأن  يدخل أي شيء لا صلة له بالعقل في الدين.

ولتوضيح تلك النقطة، فببساطة العلم يقوم بالكامل على الوسائل العلمية والتجريبية، ولا مجال فيه  لأن تقول مثلا هذا صحيح عندي لأني أعتقد فيه، اعتقادك فيه لا يضيف إلى قيمته العلمية شيئًا، إيمانك أن ثلاثة زائد أربعة يساوي عشرين لا يغير كونها سبعة.

العلم ليس مجالاً اعتقاديًا ولا ظنيًا، بل مجال للبحث والإثبات والتجريب، ويتغير بكل تغير وتنقيح في مستوى إدراكنا للمعارف. أما الدين فهو في بعض أجزائه على الأقل مسألة اعتقاد لا شأن لها بالإثبات العلمي، وهذا ما يعرفه البعض بالدليل النقلي أو الإيمان، وهذا يجعل كل ما ما يدرسه الباحثون باعتباره(علومًا) شرعية لا تتفق أصلاً مع معنى كلمة علم، وعلى من يريد أن يسميها كذلك إذا أراد ضبط المصطلح، أن يحتكم في كل نصوصها إلى العقل وهو بالطبع مالا يستقيم في أي اعتقاد وفي أي ديانة، لهذا فالشكل المتطور والحديث من أي ديانة يحتفظ بجوهر الاعتقاد قدر الإمكان مع رفض كل ما هو مخالف للعلم، وبالتالي يظل الدين اعتقادًا، ولكنه لا يصطدم بالعلم أو بالفطرة أو بالثابت التاريخي إلخ.

لا مجال إذن للحديث عن خطأ علمي لدى إسلام أو لديهم، فكلا الفريقين  لا يتحدث بمنهج علمي،  بل بمنهج اعتقادي، ولهذا فإنّ مقارنة المنهجين وتقييمهما علميًا مستحيلة، ولكن ما يُمكن تقييمه كما قلنا هو اتساق المنهج مع نفسه وأولوياته.

منهج البحيري بسيط.. لا يمكن أن تقبل الإنسانية والفطرة السليمة معاشرة طفلة، وبما إني مقتنع بأننا نتحدث عن مقام النبوة، فإن هذا أدعى لأن يكون من المنطقي عدم كسر هذه الفطرة بمعاشرة طفلة، خصوصًا أن الحديث مصنف ومبوب في صحيح البخاري في باب متعلق بسن زواج الطفلة، وهناك كذلك روايات أخرى يمكن الاعتماد عليها، وبالتالي يصبح الطرح كله منطقيًا، ويستقيم مع بعضه إذا كان سنها ثمانية عشر عامًا، وتبقى العقبة الوحيدة هي ورود الحديث المستند إليه في كتاب صحيح البخاري؛ لذا فهو يرى أن الإيمان بكل مافي صحيح البخاري ليس ملزمًا وأن استبعاد أي نص لا يتفق مع العقل أو الفطرة ضروري، وبالتالي وبما أنه يرى هذا الحديث يناقض الفطرة فقد استبعده.

يعتمد منهج البحيري إذن على وضع أساس يقوم على العقل أو على الإنسانية أو على العلم أو على وقائع تاريخية كأساس لترجيح أي موضوع  (أي نص بعيداً عن النص القرآني)،  وبالتالي يتم تحكيم العقل في النص وليس ترجيح النص على العقل، فإذا خالف  النص العقل أو الفطرة أو النص القرآني أو حتى حسن الظن بالنبي أو العلم أو الثابت تاريخيًا.. إلخ، فهو اجتهاد خاطئ من صاحبه أو أفكار شريرة ودموية يجب طرحها وإزالتها.

هذا منهج متسق مع نفسه جدا وأنفع للناس بكثير وأفضل لحال المسلمين وأجمل لصورة الإسلام، هذا كله صحيح ولكن يعيبه كمنهج  ببساطة أن معياره ومقياسه يقوم على مايراه إسلام البحيري معقولاُ وفق عقله هو، أو مايراه ثابتًا تاريخيًا، أو مايراه غير لائق بمقام النبوة أو الصحابة وهكذا، وهذا يعني حكمًا ذاتيًا وليس موضوعيًا يعتمد على رأيه فيما يليق وما لايليق (باستثناء العلم المنزه دائمًا عن الذاتية)، وبما أنه لا يمكن أن يتحول إلى نبي جديد، فإما أن يصبح هو ذاته مؤسس لمذهب ديني جديد بقواعد جديدة (كما نعلم فكل المذاهب ليست أمرًا مقدسًا، وإنما هي طرق  ومدارس للوصول إلى مايعتبرونه حكم الله وحكمته)، أو أن يتحول كل مشاهد إلى مفكر مستقل في معتقده الديني استنادًا أيضًا لنصوص معينة، و تصبح الأحكام الذاتية ( النابعة من الذات) غير الموضوعية متعددة  بتعدد المسلمين حول العالم؛ مما يعني أنك ستجد أيضًا من يضع منهجًا يقوم على الذبح، ويقول هذا اجتهادي الفكري إلخ، وتلك نقطة لها اعتبارها في تخوفات الأزهريين.

هذا صحيح فعلا. لهذا فتحويل هذا المنهج الإيجابي (بحكم نتائجه) لو اعتمدنا احترام الإنسانية والعلم والتاريخ والعقل إلخ  من أفكار وقناعات شخصية إلى منهج  هو أمر ضروري لو أردنا الانتقال من مرحلة صراع الديكة إلى مرحلة الإنتاج الفكري، بشرط إيجاد علاج لهذه العيوب في المنهج.

أما منهج الشيخين فهو أكثر ترهلاً بمراحل، فمنهجهما يقوم على التالي: لا نقبل التشكيك في أي نص لم يشكك فيه الأولون، وبالتالي فالسُّنة (وبالذات المصنفة في أعلى درجات الصحة أي ماصححه البخاري ومسلم) صحيحة دينيا، وبالتالي فهي ملزمة، ومنكر إلزاميتها  كسنة  كافر، وبالتالي فالرسول تزوّج بالسيدة عائشة وهي في سن التاسعة ولا مجال للتشكيك في ذلك، ونحن نعلم أن السُّنة كأي فعل أو قول أقره النبي ملزمة للجميع، وبالتالي فنحن نعلم أن الحديث بنصه هذا وحجيته يعد أصلا لزواج الأطفال، ونحن لا نستطيع إنكاره  لأنه يفتح باب رفض أحاديث أخرى في البخاري، ولانستطيع إنكار حجيته لأنه إنكار لقيمة السُّنة، ولا نستطيع القول إنه لا يُعتد به في بناء الأحكام الفقهية لأننا نعلم أن الحديث يؤسس لأحكام متعددة وهو حُجة معتبرة، وليس من المنطقي أن نخرج في مناظرة لنقول بجواز تزويج الطفلة، فالحل إذن أنه حرام وأن النبي يوحى إليه.

1-يعلم الأزهري وصاحبه- علم اليقين- أنه لا يوجد شيء اسمه وحي ينزل ليعطي للنبي أمرًا، ويكون خاصًا به وحده دون شروط معينة، يعلمان أنه لو كان الحكم يخصه هو وحده لما أثبته الاولو ن والآخرون، يعلمون أنه أصلا لا يمكن أن تقول عن حكم إنه خاص بالنبي وحده إلا بناء على تعارض  دليلين أحدهما بنهيه مثلا عن فعل والثاني دليل بأنه هو نفسه فعل المنهي عنه.

علي سبيل المثال فهم- وفق منهجهما- يعلمان أن حكم الزواج بتسع نساء هو حكم خاص بالنبي لماذا؟ لأنه استنادا لمنهجهم ففي صحيح البخاري أن رجلا جاء للنبي متزوجًا من تسع فقال له: (أمسك منهن أربعًا وطلق سائرهن)، بينما الرسول نفسه كان متزوجًا من تسع، وبالتالي يتأسس ما يُعرف بالحكم الخاص استنادا لتعارض القول مع فعل النبي، فيصبح فعله حكمًا خاصًا وقوله هو الحكم العام لسائر المسلمين. ومثلها أدلة كثيرة منها تعارض حديث كون فخذ الرجل عورة مع حديث بئر أريس الذي كان جالسًا فيه مكشوفًا عن فخذيه مع أبو بكر وعمر ثم سترها مع عثمان حياءً منه، والذي يستندون به لكون كشف النبي لفخذيه حكمًا خاصًا به، بينما الحكم العام أن الفخذين عورة إلى آخر هذه الأمثلة المعروفة.

وبالتالي فإن هذا ليس حكمًا خاصًا به وحده يمكن بناؤه على قاعدة (القول مقدم على الفعل عند التعارض) كما زعم الأزهري ضمنا، إلا إذا جاءا بلفظ حديث يرفض زواج الطفلة في سن تسع سنين، فيكون تعارض القول مع الفعل وفق منهجهما دليلا على ما ادعياه.

وإلا فالحكم عام وللجميع فان لم يكن كذلك فهو غير ملزم مما يفتح باب  مناقشة إلزامية السنة كمصدر للتشريع وكون أحكامها إما ثابتة بلا تغيير  أو انها أحكام قابلة للتغير بتغير الزمان والمكان.

2- ويعلم الاثنان أن حديثًا مثل (لا ضرر ولا ضرار) لا ينفي زواج الطفلة أو الدخول بها، بل ينفي فقط قبول التعمد في الإضرار بها، وهو ما أوجد له الفقهاء حلا بقاعدة (إذا كانت تطيق)، وهي قاعدة مبهمة ليست مشروطة حتى بمجيء الدورة الشهرية بل بشكل جسمها، وكلاهما يعلم ذلك، بل ويعلم أن ابن حنبل يقول بتسليمها لزوجها متى أتمت تسع سنين ولا يشترط الإطاقة استنادا لنفس نص الحديث.

3- رَفَضَ الشيخان زواج الطفلة في عالم اليوم، وأكدا على وجود السن القانونية الذي ارتضته معظم أمم العالم المتحضر اليوم وهذا أمر جيد، وبالمناسبة لم يكن هناك حاجة لإيراد أجزاء من شكسبير، فكلنا نعلم أن العالم كله حتى قرن مضى على الأقل كانت الزيجات فيه تتم في سنين المراهقة، وأن العبرة في رفع السن إلى 18 عامًا ليست الممارسة الجنسية لكون المراهقة تستطيع ممارسته، بل لكونها يجب أن تتزوج بقرارها الشخصي وهو قرار لا يعتد به قبل سن الرشد، وبالتالي فسن 18 عاما هو سن يضمن استقلالية المرأة وحرية قرارها في اختيار الشريك بعيدًا عن رأي الأب والأهل.

وقبولهما لهذه القاعدة بستحق الاحترام فعلاً؛ نتيجة لأننا أصبحنا نناقش البديهيات باستمرار، ولكنهما لم يقولا لنا ماهو سندهما الفقهي إذن؟ إنهما يتجاهلان حكمًا يقولان بصحته وإلزاميته بمجموعة ألعاب بهلوانية لا أصل لها. إذ طالما أن الحكم لا يصلح لعالم اليوم فمن قرر عدم صلاحيته؟ هما قررا. وهل هذا موجود في منهجهما؟ لا بل أنكروه على  إسلام البحيري.

إذن نستنتج من رأي الشيخين أن منهجهما يقوم على (مالا يعجبنا في الصحيحين لن نرفضه ولن نرفض حجيتته وإلزاميته، ولكننا سنتهرب وسنعتبره حكمًا خاصًا بالرسول، أو سنتهرب ونعتبره حكمًا خاصًا بصحابي معين كما فعلنا في حديث إرضاع الكبير، وكل هذا دون استيفاء القواعد التي وضعناها نحن أنفسنا للأحكام الخاصة، والسبب الحقيقي أن الزمن تغير والمكان تغير، ولكننا لا نعترف بأن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان).

وهذا المنهج نستنتج منه حقيقة واضحة أيضًا أن الأحكام ليست صالحة لكل زمان ومكان، وأنها متغيرة، ولكنّهم يريدونها متغيرة بمزاجهم لكي لا تتغير إلا (للشديد القوي).

حسنا و طالما أن سن الزواج تغير بتغير المجتمعات، فلماذا إذن أيها السادة  لا تتغير أحكام  ظالمة أخرى كثيرة مثل تعدد الزوجات أو أحكام المواريث أو العقوبات البدنية؟

ليه صحيح؟

الإجابة إذن لأن الناس لم تستنكرها بعد ونحن نسعى (كعلماء) لكي لا يستنكروها، فإذا انتشرت وجهة نظرهم وعمت فسوف نرضخ كما رضخنا في زواج الصغيرة وحكم الردة.

استنكروا الظلم إذن يرحمكم الله، واحتكموا فعلا لضميركم قبل النصوص فهذا هو مايدفع الجميع للتفكير وللتغيير وليس انتظار التجديد من مسجونين بداخل النصوص.

تحرير العقول هو مايجبر الجميع مهما اختلفت توجهاتهم علي الالتزام بحد أدني من احترام قواعد وطبيعة العصر الذي يعيشون فيه.

للتواصل مع الكاتب