التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 03:06 م , بتوقيت القاهرة

فيديو| دراما نقل أبوسمبل..أكبر عملية إنقاذ للتراث في التاريخ

"لابد أن رمسيس الثاني كان سعيدًا بهذا المشروع، لمشاهدته العالم بأكمله يأتي لإنقاذ أحد معابده"، هكذا استهل أمين المجلس الأعلى للآثار الأسبق، كلماته عن مشروع نقل معابد أبوسمبل، في فيلم أعدته شركة "ناشيونال جيوجرافيك" منذ سنوات، ليتحدث عن أكبر عملية إنقاذ للتراث في التاريخ.


وهدد بناء السد العالي، الذي كان ضرورة للحفاظ على نهر النيل من الفيضان، ووسيلة كبرى لإنتاج الكهرباء، معابد أبوسمبل التي بناها الملك رمسيس الثاني على ارتفاع 33 مترًا، وعمق لا بأس به تحت الأرض، ما جعل الحكومة المصرية تطلق صرخات لإنقاذ ذلك الصرح التاريخي.


جلس مجموعة من الخبراء والمعماريين المتحدين من 50 دولة على مستوى العالم، على طاولة واحدة، تلتهب مخيلاتهم لربط أسمائهم بذلك المشروع، وكان التحدي الأصعب هو نقل الجبل الذي نحت بداخله معبد أبو سمبل، والتي قد تغمره مياه بحيرة ناصر، إذا لم يتم إنقاذه في عدة أشهر.


واجهة المعابد ارتفاعها 33 مترًا، وخلفها مدخل تنتشر في داخله الغرف والأروقة الممتلئة بالتماثيل والنقوش الفرعونية، يتوسطها قدس الأقداس، الذي يحتوي على 4 تماثيل ضخمة ثم يتوسطهم تمثال الملك رمسيس، الذي تتعامد الشمس على وجهه، إضافة إلى تمثالين بجواره، كما يوجد تمثال رابع يمثل العالم السفلي، ويبقى في ظلم دامس، وبدأ الخبراء في وضع عدد من السيناريوهات لنقله إلى موقعه الجديد في أمان.


السيناريو الأول


إغراق أبوسمبل عمدًا، وبناء حوض مائي ضخم، ثم بناء قبة حول الموقع، وتقوم المضخات بتصفية نهر النيل من الوحول، ما يسمح بالرؤية عبر الماء، وستمكن غرف المراقبة المشاهدين من أعلى من رؤية المعبد المغمور بالماء، وللحصول على مشهد أقرب، ستنقل المصاعد الزوار إلى تحت الماء.


المانع


المشكلة في تلك الخطة أن المعابد منحوتة داخل جبل من الحجر الرملي، والمعروف بكثرة مساماته، لذلك مع الوقت ستأكل المياه الحجارة ما سيؤدي إلى انهيار المعبد.


السيناريو الثاني


بعد ثبوت فشل السيناريو الأول، كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ المعابد هي نقلها، فكان السيناريو الثاني هو نقل المعابد دفعة واحدة، وكان عليهم إزالة الأجزاء التي تحيط بالمعبد لتحريره من الجبل، عن طريق وضع 150 رافعًا تحته، ترفع تدريجيًّا ربع مليون طن في كل مرة، وعندما يصل المعبد إلى المستوى الأول، يستبدلونها بأعمدة من الأسمنت، لتشكل منصة تحت البنية، وبالتالي يمكن رفع المعبد إلى المستوى الثاني بنفس الطريقة، التي ستتكرر 200 مرة.


المانع


كانت نسبة الخطورة عالية جدًّا، فلم يتم نقل بنية ثقيلة إلى ذلك الحد كتلة واحدة من قبل، وقد تكون العواقب كارثية، حيث إن حجم المعبد 250 ألف طن، وإذا تمت هذه العملية قد تهدم أرض المعبد.


السيناريو الثالث


اقترح مهندسون تطويق المعبد داخل مركب من الأسمنت المقوى، مستخدمين ارتفاع منسوب المياه لصالحهم، ومع ذلك يمكن أن ينتقل المعبد إلى بر الأمان.


المانع


ستستغرق تلك العملية 6 سنوات، لهذا فستعد مجازفة كبيرة في حال هبوب أي عاصفة قد تتدمر المعبد.


فويبا التفكيك


ومن هنا بدأ الناقلون يدركون استحالة نقل أبوسمبل دفعة واحدة، وأن الطريقة الوحيدة هي تفكيك المعابد إلى أجزاء صغيرة، تمهيدًا لنقلها، وهو ما أثار ذعر علماء الآثار، ولكنهم تقبلوا الفكرة على مضض، لكونها الوسيلة الأسلم لنقل المعبد، فلن يخسروا أي جزء من المعبد، وسيبعدونه عن المياه.


البداية الحقيقية


في العام 1964 بدأ فريق دولي من 2000 مهندس ومقاول من السويد وإيطاليا وألمانيا ومصر، في التخطيط لعملية من ثلاثة مراحل، تقطيع وتفكيك وإعادة تركيب.


التقطيع


أدرك المهندسون أنهم لا يستطيعون تقطيع أبوسمبل إلى قطع متساوية، لأن هذا سيجعل الواجهة تبدو كلوح الشطرنج، فسيحتاجون إلى نشر 5000 قطعة لتفكيك العبد، وكان أمامهم 6 أشهر حتى يصل نهر النيل إلى قدمي رمسيس الثاني.


وقام المهندسون ببناء سد عازل، سيعطيهم 13 شهرًا إضافيًّا حتى تصل مياه نهر النيل إلى قمة المعبد، ولكن هذا يهدد المعبد بموجة تشبه التسونامي تتجه نحوهم، إما أن ينقلوه أو يغرق بالفيضان.


واحتاج الأمر إلى نقل الجبل المنحوت فيه المعبد، وليس المعبد فقط، وكان أمامهم طريقتان، الأولى باستخدام المتفجرات، والتي قد تؤدي إلى انهيار المعبد، أو استخدام الأسلاق الفولاذية والمناشر الحديدة، والتي ستستغرق وقتًا أطول.


أنجز 500 عامل، الطريقة الثانية في إزالة قمة الجبل في 7 أشهر، ومن ثم بدأ العمل في تقطيع المعبد، وبدأ باستخدام مناشير حديدية، وأمهلوا بالطبع وجه فرعون اهتمامًا خاصًا لعدم إحداث أي ندوب.


مناشير يدوية طويلة استخدمها العمال، جنبتهم إحداث كوارث أثرية، قد كانت تحدث إذا استخدموا آلات تقطيع سريعة، إلا أنها تكلفت وقتا وجهدًا بلغ 9 أشهر من النشر المتواصل، والتي كانت تسن خلالها المناشير كل 6 ساعات على الأقل لضمان فاعلية عدم تلفها.


"من لم يعرف ماذا حدث..لا يمكنه أن يتخيل أن هذا المعبد لم يكن موجودًا هنا وتم نقله"، هكذا قال المهنس السويدي، جوستا بيرشن، الذي شارك في عملية نقل المعبد، في فيلم "نقل معابد أبوسمبل" التي أعدته "ناشيونال جيوجرافيك، حينما تحدث عن تقطيع الغرف الداخلية، وهو الأمر الذي كان صعبًا لعدم إتلاف النقوش الفرعونية على الأسقف والجدران.


التفكيك والرفع


"كنا نحاول نقل الجبل، لكن كان علينا تفكيكه..لأننا لم يكن بمقدورنا نقله دفعة واحدة"..هكذا وضح المهندس السويدي الأمر، فقد تم تقطيع أبوسمبل إلى 1000 قطعة، كل واحدة تزن 30 طنًّا.


كيف يرفعون كل قطعة من دون تدميرها؟ هذا هو السؤال الذي داهم عقول الخبراء والمهندسين، فكان أمامهم رفع القطع بالأحزمة إلا أنها كان يمكن أن تتفكك، فكان عليهم استخدام أعمدة فولاذية كعصا الأكل التي تلتقط الجبنة، على عمق مناسب حتى لا تتوسع التصدعات في المعبد، وتكون النتائج كارثية.


في أكتوبر 1965 رفع المهندسون أول وجه لرمسيس الثاني من المعبد، في مشهد مهيب، لكون المعلم التاريخي صاحب عمر الـ3000 عام، على المحك، إلا أنهم نجحوا في حمل الوجه بإطار على متن شاحنة.


النقل والتخزين


كانت الشاحنات تسير ببطء شديد في رحلة تمتد لـ800 متر للوصول بالحجارة إلى منطقة التخزين، حتى تكون جاهزة للتركيب في منطقة أعلى سطح الماء.


ورتبت هناك الحجارة بعناية وأعطى كل واحد منهم رمز تعريفيًّا ورقمًا ليعرف موضوعه بالضبط، وبأي ترتيب سيعاد تركيبه، وفي أبريل 1966 تم نقل آخر قطعة حجارة من معابد أبوسمبل، وهزم المهندسون النهر الفائض، الذي أغرق الموقع الأصلي للمعبد بعد 4 أشهر.


التركيب


التحدي الجديد، هو تركيب المعابد بطريقة تضمن إعادة إضاءة أشعة الشمس وجه آلهة المعبد من جديد، وفي يناير 1967 قبلوا التحدي، وبدأوا في تركيب الجبل حول المعبد، والتي كانت هي المهمة الأصعب.


وقام المهندسون ببناء قبة خرسانية ضخمة حول المعبد، ستقوم بحماية صخور الجبال والمعابد من السقوط، وتم تركيب الواجهة الأمامية للمنحدر الصخري، حتى يبدو أن المعبد وما حوله لم ينتقل قط.


استغرق تركيب المعابد 19 شهرًا بين حركات ميكانكية خطيرة ودقيقة، حتى يتمكن المهندسون من تهيئتها لظاهرة تعامد الشمس، وتركيب تمثال رمسيس الضخم لحماية المعبد مجددًا.


الترميم


كان عليهم تغطية شقوق التقطيع اليدوي، فقاموا بملئها بطين البناء لإخفاء آثار الجراحة، وفي 11 أكتوبر 1968 بعد 4 سنوات ونصف من بدء العمل، وقبل عشرين شهرًا من الجدول الزمني المحدد، تم إنجاز المشروع، وظل المهندسون في انتظار موعد تعامد الشمس على تماثل المعبد، ليتسألون، هل ستخترق الشمس قدس الأقداس؟..حتى جاءت الإجابة شهادة بنجاح أكبر عملية إنقاذ ونقل في التاريخ، لتظل أشعة الشمس تضيء التماثيل، كما فعلت على مدار 3000 آلاف سنة سابقة، وستستمر في القرون المقبلة.