الحجاب حرية شخصية؟ متأكد؟
بعض البديهيات يتم التعمية عليها دائمًا باستخدام منطق مغلوط أو باستخدام جمل غير صحيحة منطقيًا أو معرفيًا وتكرارها؛ حتى تتحول إلى حقائق راسخة، رغم أن الرد عليها لا يحتاج حتى لتفكير لو أن الإجابات المُسبقة غير موجودة.
الحجاب حرية شخصية. هذا حقيقي جدًا، فعندما نتحدث عن فكرة حرية أي شخص في أن يرتدي ما يشاء، فإننا نتحدث عن حرية شخصية طالما أنه لا يعتدي على حقوق الآخرين، على سبيل المثال الأشخاص الملثمون والنساء المنتقبات ليسوا بالضرورة يمارسون حريتهم الشخصية؛ لأن إخفاءهم لهويتهم قد يسبب ضررا جسيما للآخرين في مختلف المسائل الأمنية أو التجارية وربما الصحية إلخ. وبالتالي فارتداء الحجاب يختلف عن النقاب فهو حرية شخصية خالصة بالفعل. هذا أمر واضح لا جدال فيه، كل امرأة اختارت بإرادتها الحرة أن ترتدي الحجاب أو أن تخلعه أو ألا ترتديه من الأساس، تمارس حريتها.
ولكن هذا ليس كل شيء، دعنا نضع تعريفًا لممارسات الحرية الشخصية، إنها الأمور التي تمارسها عبر اختيارك الخاص من ضمن اختيارات متعددة دون ضغط أو قهر أو إجبار أو إكراه.
الحرية الشخصية إذن تستند في الأساس على ثلاثة موضوعات الأول حرية الإرادة، والثاني حرية الاختيار، والثالث هو العلاقة بين حرية الفعل وبين غياب الإكراه أوبين الحرية الإيجابية والحرية السلبية. سنتجاوز فكرة حرية الإرادة هنا لأنه مفهوم فلسفي أكثر منه موضوع للنقاش المجتمعي، فهو موضوع ناقشه العشرات من الفلاسفة عبر القرون، وعبر صراع فكرة الإرادة الحرة مع فكرة الحتمية، وصراع المدارس المختلفة كالقدرية والجبرية.. إلخ.
لننتقل إذن لمفهوم حرية الاختيار: حرية الاختيار هي توافر الفرصة والقدرة لإنسان على القيام بفعل معين عبر اختيار من اختيارات متعددة لا تقل عن اثنين ودون قيود واشتراطات خارجية.
أما العلاقة بين حرية الفعل وبين غياب الإكراه، فيمكن تلخيصها بأن كل فعل تختاره في وجود الإكراه الخارجي المادي أو المعنوي فلا يمكن على الإطلاق وصف ممارسته بأنها حرية. بل أن هناك تمييزًا بين الحرية السلبية والإيجابية كما هو الحال مع الفيلسوف أشعيا برلين مثلا.
فالحرية السلبية هي غياب القيود والحواجز والاشتراطات الخارجية أمام الفرد بحيث يكون متحررا بمقدار الأفعال المتاحة له، أما الحرية الإيجابية فهي قدرة الإنسان على الفعل في ظل وجود وعي وتقرير مصير ذاتي أو بمعنى أكثر تبسيطا القدرة على الفعل في غياب الضغوط الداخلية التي تقيد الحرية كالإدمان أو المعلومة الخاطئة، ولتفسير هذا لنتخيل أن شخصًا مدخنًا هل هو بالفعل- وفي غياب كل المؤثرات الخارجية- يملك فعلا حرية اختيار أن يدخن سيجارة جديدة، أم أنه مجبر، وبالمثل فهل تملك فعلا خيار شراء سيارة حالتها سيئة عندما يكذب عليك البائع بشأن حالتها أو عندما يضللك الميكانيكي بشأن حالتها إلخ.
باختصار إذًا فأنت لا تكون حرًا إلا في غياب كل الإكراهات والقيود الخارجية اولاً و كذلك في غياب الضغوط الداخلية احياناً ، غياب الضغوط الخارجية هي مسألة قوانين وسياسة وعلم اجتماع ونظام اجتماعي وأسري ونسق قيمي، اما غياب الضغوط الداخلية فهي مسالة متعلقة بعلم النفس لهذا فلسنا معنيين بمناقشتها هنا
مامعنى هذا كله؟
معناه أنه لو لم تتوافر لكِ الفرصة لاختيار الحجاب عبر إجبارك على ارتدائه منذ طفولتك مثلاً، فأنتِ ببساطة لم تختاريه ولا معنى هنا للقول بكونه حرية.
ومعناه أنه لو تم قص شعركِ عبر معلم أو معلمة بالذات معلمي الدين أو عبر إدارة مدرسة لإجبارك على ارتدائه فأنتِ لم تختاريه.
ومعناه أنه لو تم تهديدك أو إيذاؤك فعلا بالضرب أو السب أو تهديدك بأن الأسرة ستقاطعك فأنتِ لم تختاريه.
ومعناه أنك لو لم تستطيعي اتخاذ قرار عكسي بخلعه إذا أردتي فأنتِ لم تختاريه، وأنه إذا قرر أي من أقاربك أو أصدقائك الضغط عليكِ واستجبتِ فأنت لم تختاريه.
ومعناه أنه لو تم التحرش بكِ لكي ترتديه أو تم تبرير التحرش بكِ بسبب عدم ارتدائه فأنتِ لم تختاريه.
ومعناه أنه لو تم ترهيبك وتخويفك وتضليلك وإقناعك بكل أشكال الأباطيل بضرورة ارتدائه وإلا ستذهبين مباشرةً إلى الجحيم، فأنتِ لم تختاريه.
ومعناه أنه لو اشترط عليكِ خطيبكِ أو زوجكِ ارتدائه، لأنه يريد إرضاء غروره على حسابك أو تجنب نظرات السفهاء الذين يرمقونه بنظرة معناها أنه ديوث، فأنتِ لم تختاريه، بل هو اختاره، أو هم من اختاروه عنكما معا.
ليس غريبًا إذن أن يدعو الدكتور شريف الشوباشي لمظاهرة لخلع الحجاب، بل الغريب هو ردود الأفعال الغريبة تجاه دعوته ومن أشخاص يُعنونون تصرفاتهم بعنوان الحرية. إنهم يتهمون المظاهرة بأنها تعتدي على حرية المحجبات، وهو أمر مضحك للغاية، ويدل على إفلاس حججهم، فهل دعت المظاهرة إلى إجبار أحد على خلع الحجاب؟ طبعا لأ.
عظيم، هل دعت المظاهرة إلى التحقير من المرأة المحجبة؟ لا. هل المرأة المحجبة والتي اختارت هذا الزي عن قناعة ورضا حقيقيين سيتغير موقفها إذا ما خرجت مظاهرة تدعو لخلعه؟ لا. إذن فأين هو الاعتداء على حرية المحجبات؟ المظاهرة إذن هي تجمع يضم غير المحجبات أو من خلعن الحجاب أو الراغبات في خلعه، ويقوم هؤلاء بدعوة الباقيات اللاتي أجبرن على ارتداء هذا الزي إلى التشجع ومواجهة المجتمع بشجاعة، وعدم الخضوع لوصفات المجتمع الجاهزة.
مواجهة مجتمع يصفك بأنك (لحم مكشوف، أو مصاصة يتجمع عليها الذباب، أو جهاز ثمين يحتاج إلى غطاء(كوفر)) إلخ، ويسلط عليكِ سفهاؤه ليبرروا إيذاءك معنويًا أو ملامسة جسدك غصبًا أو أي شكل من أشكال الاعتداء، وصولا للاغتصاب بدعوى مواعيد تواجدك في الشارع أو طبيعة ماترتدينه هي مواجهة ضرورية، وتقويم هذه المفاهيم هي لصالح الجميع، بل ولصالح المحجبة قبل غيرها.
المرأة المصرية التي أصبحت غالبا مُحجبة هي التي سكتت ومررت نظرية المرأة هي المذنب لتحصل على تفوق أخلاقي مزعوم تجاه بقية النساء، تلك المرأة التي تمصمص شفاهها إذا جاءت صورة امرأة جميلة في التلفزيون، قائلة بس إحنا عندنا العفة والشرف.. إلخ، بينما تمتلئ صفحاتها الشخصية على وسائل التواصل بصور النساء الحاسِرات وكأنّها تتحسر على حالها.
تلك هي ببساطة أكبر مساهم في مهزلة التحرش التي نراها، والتي وصلت إليها هي نفسها في النهاية، ومهما بالغت في ارتداء طبقات من الملابس فوق جسدها الآن، فهذا لن يكون كافيًا وحده لصد المتحرشين عنها إذا ما غاب الردع الحقيقي. لماذا؟ لأنها ارتضت منذ البداية تصورا أساسه أن الهدف هو تكوين أسرة، وأن تكوين أسرة يكون عبر إقناع الرجل، وأن الطريق لإقناع الرجل هو بادعاء التدين، وهذا لا يأتي إلا بتحقير الآخرين ضمنيا، والتقليل من شأنهم، إلى أن وصل الأمر لانعدام المنافسة فأصبح الجميع تقريبا محجبات، وهنا صعدت المنافسة لمستويات أخرى عبر الإسدال أو النقاب.. إلخ وبعدها ستصل لترك العمل، وربما ترك التعليم ولقبول تعدد الزوجات، فمادمتِ قبلت أي تبريرات سخيفة تحت مسمى ديني أو مسمى إرضاء الرجل فإن المعركة ستستمر نحو مزيد من التنميط.
ليس هذا إلا رصداً للواقع وللنتائج والأسباب التي صنعته وليس انتقاصاً من حرية ارتداءه.
أما أغرب التبريرات والتي تأتي أحيانا من فتيات غير محجبات يحاولن الظهور بمظهر الوسطيات المعتدلات وسط صديقاتهن فهو "والرجالة مالهم أصلا البنت تتحجب أو لا؟ أنت مالك؟ ماشأنك كرجل؟".
وفي الواقع فإنه مبدئيا لاحظ التناقض هنا في أنها لا تستغرب دعوة أي من المشايخ للحجاب وهم غالبًا رجال، بينما تعتبر أن الموضوع ليس من شأنك إذا دعوت لخلعه. إنه نوع من الانسحاق تجاه القيم والأفكار التي فرضها الآخر بالأكثرية العددية، والتي تجعلك تستنكر أي فعل مخالف لرأيه هذا حتى لو كان رأيه يضرك أنت نفسك، بينما تتقبل رأيه بمنطق المغلوب على أمره، الذين يقولون هذا يستغربون كيف تقف في ميدان لتقول إنك ضد الحجاب، ولا يستغربون ملايين الملصقات والكتيبات والشعارات والإعلانات والبرامج التلفزيونية والمسلسلات.. إلخ على مدى عقود المنتشرة في كل مكان بجمل من عينة (الحجاب قبل الحساب) أو ( الحجاب عفة وطهارة) أو ( حجابي هو عفافي)، لماذا لم يستغرب هؤلاء السباب الضمني الموجه لهن إذن ولماذا لم تستنكره زميلاتها وصديقاتها المحجبات؟ بينما كلهم فجأة يستنكرون أي اعتراض على الحجاب، أين كان دفاعهم المزعوم عن الحرية ورفضهم المزعوم للعنصرية ضد المخالف طيلة أربعين عاماً او أكثر.
أما الأغرب فهو علاقة كونك رجلاً أو امرأة بموقفك من الحجاب؟ هل موقفك من تعليم الفتيات مثلا يعني أنك يجب أن تكون امرأة؟ هل رفض ختان الإناث يستدعي كونك امرأة؟ أليست هذه المواقف العجيبة إثباتًا لكون المرأة المصرية عدوة نفسها؟
أنت مالك؟ أو ماشانك؟ هي جمل صحيحة عندما تتوجه إلى شخص معين أو امرأة معينة وتطلب منها خلع الحجاب أو عندما تسألها لماذا ترتدينه، تلك هي الصفاقة والحشرية وليس أن توجه دعوة عامة للراغبين في الانضمام، وبالتالي فإظهارك كمتطفل هو ميكانيزم دفاعي فاشل يلجأ له البعض لتبرير رفض لا توجد له مبررات منطقية من زاوية الحرية الشخصية للجميع.
أما الاتهام بالعنصرية ضد المحجبات فهو أمر واضح أنه في غير محله، فرفض الحجاب لا يعني رفض المحجبات كأشخاص.
لاحظ إذن أن هؤلاء الذين أتوا من كل فج عميق ليهاجموا دعوة من مجموعة مواطنين للتعبير عن نفسهم لا تسمع لهم صوتًا في مواقف مثل أن تكون مع (زوجتك، خطيبتك،حبيبتك، صديقتك) في أي مكان حتى لو في مكان مفتوح ككورنيش النيل ويظهر لك فجأة شخص أو عدة أشخاص سمجين ليسألوك عن علاقتك بها ويطلبون منك الالتزام بكتالوجهم بدلا من ممارسة(حريتك الشخصية).
أتعرف لماذا تراجعت مساحة الحرية لدى المصريين؟ لأن هذين الشابين في هذا الموقف لم يقولا لهم أبدا وما شأنكم؟ فهي تخاف الفضيحة وهو يخاف أن تتسبب مشاجرة في فضيحة وربما في إنهاء علاقتهم؛ لهذا يفضل أن (يسايس) المتطفلين الحقيقيين لإبعادهم عن فتاته. لأننا علمنا الفتاة أن تخاف من أبيها أو أخيها، وأن تتعامل مع مشاعرها على كونها خطيئة إلى أن يحدث الزواج والذي يحدث وفق معايير المجتمع الفاسدة غالباً، لأننا سكتنا على كل المتطرفين والمتطفلين والسخفاء إلى درجة أنهم أصبحوا يصعدون إلى المنازل ليدقوا أجراس البيوت وقت صلاة الفجر، وكل هذا باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مساحة الحرية تراجعت لأن الجميع يشعر بالذنب العظيم على جرائم لم يرتكبها أو على أفعال ليست جرائم أصلاً، لأننا قبلنا من يرفض مصافحة الرجل والمرأة باعتباره يمارس حريته، بينما رفض هو أن يتقبل حريتك في التعامل مع الجميع، معتبرا هذا اختلاطًا وفسوقًا .
ببساطة تراجعت حريتنا الحقيقية لأننا رضينا بالهم والهم مارضيش بينا.
اقرأ أيضا